دروس من وحي الشهداء

الكاتب || جمعة العطواني

العملية السياسية في العراق وفي كل البلدان التي تنتهج منهجا ديموقراطيا في إدارة الدولة ترتكز على ثلاثة عناصر أساسية وهي: الشعب، والأحزاب، والقانون ، فالشعب ينتج طبقة سياسية حاكمة ، والأحزاب الحاكمة تدير الدولة من خلال الدستور والقوانين النافذة .
هذه النمطية في إدارة الدولة والتبادل السلمي فيها يحصل في الدول المستقرة سياسيا وامنيا وثقافيا ، وبخاصة عندما تكون (هوية) المجتمع والدولة واضحة .
اما في العراق فان الوضع مختلف بشكل كبير وجذري، اذ ان احد اهم أسباب احتلال العراق واسقاط نظام البعث المجرم ليس إرساء الديموقراطية ونشر العدل والمساواة كما يتصور البعض، بل وليس من اجل استقرار المنطقة على (اعتبار ان المقبور صدام ) كان يمثل عامل تهديد وزعزعة للعراق والمنطقة ، وانما ان اهم أسباب هذا الاحتلال هو بناء دولة عراقية على أسس قيمية وثقافية تتعارض تماما مع القيم الإسلامية والتقاليد الاجتماعية التي تربى عليها الشعب، وأصبحت جزئا لا يتجزأ من هويته الاجتماعية، وعلى أساس ذلك تشكلت هوية الدولة منذ تأسيسها .
عندما نفهم هذه الحقيقة يمكن لنا ان نقرا الاحداث التفصيلية اليومية بغير العين التقليدية التي نقراها عندما ننظر الى الصراع هو صراح سياسي فحسب.
بالنتيجة فان (أُس) المشكلة والصراع في العراق صراع ( هوية) بامتياز ، ويتمظهر هذا الصراع في تثبيت الهوية لكل طرف من خلال ما يستعرضه هذا الطرف او ذاك من شعارات يرفعها او بيانات يصدرها .
كلامنا هذا لا علاقة له بالأداء السياسي والوظيفي لهذا الطرف او ذاك ، فاكل مشترك بالمسؤولية بهذا الخصوص، وهي من اهم المشتركات التي جمعت الأطراف المتصارعة او المتخاصمة رغم اختلافهم الكبير.
الطرف الذي يريد هوية للعراق قوامها ( التحرر) من كل القيود التي تمنعه من ممارسة ما يراه حقا، حتى لو كانت قيودا دينية وقيما اجتماعية واعراف عشائرية، فهو يرفع شعارات (الاباحية والتحلل) كحق للفرد، ويدعو الى ابعاد المجتمع عن كل القيم والثوابت، وضرورة ان يرتدي الثوب الجديد الذي جاء به الاحتلال.
بالمقابل فان الطرف الاخر يطالب بضرورة الحفاظ على الثوابت الدينية والقيم الاجتماعية والأعراف العشائرية، مع إعطاء الحق للمجتمع في ممارسة حريته كاملة من ضمن اطار تلك الحدود التي يتقبلها المجتمع وتعد من ضرورات الحياة.
ما رافق تظاهرات تشرين ( الحقة) من اعمال وسلوكيات تتعارض مع ناموس المجتمع العراقي ليست اعمال مراهقين فحسب ، بل انها اعمال مرسومة ومخطط لها بدقة، يريد أصحابها ان يصنعوا ثقافتهم الجديدة في المجتمع العراقي، وضرورة تقبلها كأمر واقع، ومن خلالها تصبح هذه الممارسات الأخلاقية هي المقياس في قبول او رفض اية ممارسة أخرى ,
بالمقابل فان التظاهرات الكبيرة التي خرجت في الذكرى السنوية الثانية لاستشهاد قادة النصر هي الأخرى ليست عملا عفويا عاطفيا كما يتصوره البعض، بل هي تعبير اخر عن الهوية لتي تريدها غالبية شرائح المجتمع، العراقي، ومنها الدفاع عن القيم الدينية والمجتمعية، وضرورة احياء المناسبات المقدسة المرتبطة بالدين والوطن وقيم المجتمع.
من هذه المقدمة يمكن القول ان القوى الإسلامية مقصرة في هذه المعركة تقصيرا فكريا وعقائديا واجتماعيا ، واكاد اجزم الى حد الحرمة الشرعية، بسبب اهمالهم لهذا الشباب الغيور الذي يعبر عن هويته بكل وضوح، في الوقت الذي تحاول بعض القوى( السياسية) الشيعية ان تتنكر لهذه الهوية تحت مبررات شتى ، وتحاول ان ترتدي ثوبا لا يختلف من حيث المبدأ مع أصحاب الهوية الأولى.
ان سلاح المعركة الوحيد بين الفريقين هو الشباب العراقي، فمن يستطع ان يستقطب الشباب لصالحه، فان نتيجة معركته معلومة بشكل وضح.
قد يقول البعض اليس هذه الجموع الكبيرة التي شاركت في احياء الذكرى السنوية الثانية لاستشهاد قادة النصر هم ثمرة جهود القوى الإسلامية الشيعية ؟.
نقول للأسف ليس لأمر كذلك، بل ان هذه الجموع من الشباب ثمرة لعدة جهود أهمها:
أولا: هم جمهور الحشد لشعبي الذي نشا لعدة عوامل منها ، الروح العقائدية التي اثرتها فتوى الجهاد الكفائي في نفوس هؤلاء الشباب.
ثانيا: معاشرة ومعاصرة الشهداء القادة لغالبية الشباب كان له لدور الكبير في هذا الحماس والتعاطف.
ثالثا: العقيدة الراسخة لدى الشباب تمثل تراكمات ثقافية تعلمها الشباب من المحيط الاجتماعي والديني خلال السنوات وحتى العقود الماضية ـ ولهذا يحاول العدو ان يتحرك لإطفاء جذوة هذه الروح بين أوساط الشباب.
رابعا: وفوق كل هذا وذاك فان لثورة الامام الخميني ( قدس) ووهجها الذي اضاء الطريق امام الشباب في معرفتهم للبعد الاخر من الإسلام والذي ظل (مجهولا) لعقود وعقود طوال، اذ زرعت هذه الثورة عنصر الثقة بالشباب المسلم وبدينه المحمدي الأصيل في ان يتحول هذا الدين الى دولة تمازج بين الحداثة والعلم من جهة ، وقيم الإسلام وثوابته من جهة أخرى ، وتتحول من اماني ودعاء واحلام الى واقع يعيش على الأرض منذ عقود رغم الحرب الكونية على الإسلام وأهله الثورة مؤسسها وقائدها.
خامسا: ومن باب الانصاف أيضا، لابد من الإشارة الى ان جزءا من هؤلاء الشباب ينتمون فكريا وسياسيا الى القوى الشيعية .
لكن كل هذه العوامل (آيلة )الى الاضمحلال والنضوب اذا لم تُسقَ بماء الاهتمام والاحتضان، وبناء باقي الشباب فكريا وعقائديا، وتسليحهم بسلاح المواجهة الفكرية مع العدو، على اعتبار ان المعركة هي بالأساس فكرية، وكل ما عداها معارك مرحلية تنتهي بانتهاء مقتضياتها .
عندما تفكر الأحزاب الشيعية بان واجبها الشرعي والأخلاقي والاجتماعي هو الاهتمام بالشباب، وتحصينهم من محاولات الانحلال والانحطاط ، قبل تفكيرهم بالاستقطاب لأغراض( انتخابية)، عندها ستجني هذه الأحزاب خير الدنيا والاخرة ، فهي من جهة تكون قد أدت واجبها الشرعي والأخلاقي في تنشاة شباب يمثلون الثروة الحقيقة للدولة والمجتمع، وكذلك قد ادوا واجبهم في ترصين الهوية الثقافية التي تمثل هوية الدولة ، كما انها ستقطف ثمار جهودها في اية فعالية سياسية بعد ان تستقطب هؤلاء الشباب ، ويشعر الشباب بان ارتباطهم مع هذا الحزب وتلك الحركة السياسية هو ارتباط روحي وعقائدي واخلاقي قبل ان يكون ارتباطا براغماتيا سياسيا استهلاكيا .
 

المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي القناة

بإمكانكم إرسال مقالاتكم و تحليلاتكم لغرض نشرها بموقع الغدير عبر البريد الالكتروني

[email protected]

 

شاهد أيضاً

حديث الإثنين.. سيظل العرب في غيهم يعمهون..!

احمد ناصر الشريف ||

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *