للكاتب / د. محسن القزويني
بعد أن وضعت الحرب أوزارها في فلسطين المحتلة أخذ المراقبون يحسبون فواتير كل طرف من أطراف الحرب؛ عدد القتلى، عدد الجرحى، عدد البنايات المهدمة، وبالمجمل قيمة الخسائر المادية التي لحقت بكل طرف.
وللوهلة الأولى تبدو اسرائيل هي الرابحة في الحرب لأنها لم تخسر سوى عدد ضئيل من القتلى والجرحى وعدد محدود من البنايات وبعض الخسائر في المعدات والتجهيزات العسكرية واللوجستية، فبالحسابات المادية اسرائيل هي المنتصرة في الحرب، لكن عندما ننظر إلى النتائج من منظار الواقع الحاضر والتاريخي للجيش الاسرائيلي وقياسا بحروبها السابقة ستبدو النتائج على صورة معاكسة.
فاسرائيل التي تمتلك أقوى ترسانة للقوة العسكرية والتي هزمت جيوش ثلاث دول عربية قبل أكثر من نصف قرن ولازالت ترعب الأنظمة العربية المهرولة نحو التطبيع والمتحالفة معها. اسرائيل التي تُعتبر رابع قوة عسكرية في عالمنا اليوم والتي تمتلك أفضل تقنية عسكرية، وأفضل الطائرات والمجنزرات والصواريخ، وأقوى المخابرات والتجهيزات الرادارية التجسسية، وأقوى تنظيم عسكري، بالإضافة إلى القبة الحديدية التي بذلت من أجلها الأموال الطائلة والتي اعتبرتها مفخرة الجيوش المتطورة في العالم.
هذه القوة العظمى التي تُسمى اسرائيل كانت في قبضة المقاومة الفلسطينية لأحد عشر يوم تتحكم بها في نومها ويقضتها في اقتصادها وسياساتها، فقد اُقفلت مطاراتها، وتوقف تدفق النفط في إيلات بعد ضرب الأنابيب الناقلة، وتوقف حقل غاز تامار، وفقدت البورصة الاسرائيلية 30% من قيمتها السوقية. لقد تضرر كل فرد في اسرائيل جراء هذه الحرب التي فرضتها اسرائيل على الشعب الفلسطيني شروعا من حي الشيخ جراح وباب العمود حتى الساعة الثانية من منتصف ليلة الجمعة .
أضف إلى ذلك وجدت اسرائيل نفسها وهي في مواجهة مستعرة مع كافة أبناء فلسطين داخل الخط الأخضر وخارجه، بل وجدت نفسها أمام سيل من المتظاهرين الذين جابوا العواصم والمدن في القارات الخمس منددين بالعدوان على الشعب الفلسطيني رافعين صور الاطفال الفلسطينيين الذين استشهدوا جراء القصف الاسرائيلي والذين تجاوز عددهم السبعين شهيدا.
فمنذ المواجهة الاخيرة في 2014 واسرائيل تمكيج وجهها بمساحيق السلام و المحبة وحب الخير للاخرين وهي ذات الوقت تُخطط للسيطرة على المنطقة العربية بشتى الحيل والاساليب الملتوية، وفعلا تمكنت من استدراج بعض الدول العربية إلى خانة التطبيع والسلام الكاذب، وفي الوقت نفسه كانت اسرائيل تبني نفسها تقنيا وتطوِّر قدراتها العسكرية بحثاً عن فرصة للقضاء على المقاومة الفلسطينية، وقد حانت الفرصة لاستئصال حماس والجهاد الاسلامي وازالة الخطر الوحيد الذي يهددها ويبدد احلامها الوردية في ابتلاع فلسطين بالكامل، بل السيطرة والتحكم بمقاليد الأمور في الشرق الأوسط.
كانت خطة اسرائيل هي القضاء على قادة المقاومة الفلسطينية، إذ أعدت خطة لقتل سبعة من أشرس أعدائها في فلسطين؛ حددت أماكنهم ومقراتهم والأنفاق التي يتواجدون فيها، لكنها لن تستطع أن تصيد ولا واحد من هؤلاء السبعة المطلوبين لها، وقد تحدث نتانياهو بأسى إنه لم يتمكن من قتل هؤلاء السبعة ولم يستطع أن يجدهم تحت الأرض في الأنفاق التي دمرها على رؤوس من فيها.
فما الذي أنجزته اسرائيل خلال هذه المواجهة باختصار مفيد؛ إنها تمكنت من هدم المنازل والبنايات التي كانت تأوي المدنيين ومكاتب وكالات الأنباء والصحافة العالمية والعربية، وإنها استطاعت أن تقتل أكثر من مائتين من أبناء الشعب الفلسطيني نصفهم من الأطفال والنساء. هذا هو الحصاد الاسرائيلي.
أما حصاد المقاومة فليس فقط في اطلاق 4700 صاروخ نحو اسرائيل باعتراف العدو بل أهم من ذلك كله انها تمكنت أن تحيي القضية الفلسطينية وتجعلها القضية الأولى ليس فقط في الدول العربية بل في دول العالم بأسره.
واستطاعت المقاومة الفلسطينية أن تدفع باسرائيل إلى زاوية حرجة وتمكنت أن تحوّل منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى صرخة مدوية ضد اسرائيل وأعمالها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني.
استطاعت المقاومة أن تعزل اسرائيل وتجعلها لوحدها تتجرع آلام الهزيمة حتى اضطر نتانياهو أن يستجدي الدعم الدولي في آخر خطاب له أمام السلك الدبلوماسي والسياسي مطالبا الدول الصديقة والحليفة والمطبّعة إلى الوقوف إلى جانبها قائلاً: ان المعركة الجارية ليست هي معركة اسرائيل فقط محذرا من أن انتصار حماس في هذه المعركة سيكون هزيمة لجميع دول المنطقة.
لقد استطاعت المقاومة الفلسطينية أن ترسخ ارادة المواجهة في الشعب الفلسطيني الذي كان يزداد حماسا للقتال على عكس ما تصورته اسرائيل واستطاعت أن تبرهن للعالم بأسره أن المقاومة حية وانها قادرة على الصمود ولو طال زمن الحرب.
وانها منتصرة لا محالة عاجلا أو آجلا لأنها تكبر عند احتدام المعارك بينما عدوها يصغر ويتهاوى في ساحات المواجهة كلما طال به الزمن.