لو غاب أحد منّا عن أخبار لبنان منذ ما يقارب سنتين أو أكثر قليلاً، وعاد اليوم، لَوَجد الحديث كأنه عن بلد آخر؛ بلد يشبه لبنان بعض الشيء، لكنه بالتأكيد ليس هو.
عاش لبنان مرحلة صعبة منذ حراك تشرين الأول/أكتوبر 2019. كان الشعب يعاني وضعاً معيشياً سيّئاً، وتدهوراً اقتصادياً يهرول في اتجاه المجهول كل يوم، لكنه استفحل حتى صعب استئصاله. حكومة تعتلي المنصب، ثم تستقيل، فتأتي حكومة أخرى، فتستقيل أيضاً… وهكذا. وبين حكومة تأتي وأخرى تغادر وحكومة حالية مترنّحة، رفع الدعم قبل أيام عن الدواء في البلاد.
الدواء: أعتى الأسلحة التي صوبتها الدولة في وجوه المواطنين، لكن من دون رصاص.
ماذا يعني رفع الدعم عن الدواء؟
ببساطة، يعني الموت البطيء والمدروس. يعني أن هؤلاء المواطنين تُرِكوا لمواجهة الأمراض من دون أيّ سلاح، ويعني أنهم سيموتون عاجلاً أو آجلاً. ولو كانوا خارج ساحة الحرب، ولو لم يتعرضوا لحادث سير مفاجئ، فسيموتون لأنهم لم يستطيعوا دفع ثمن الدواء الذي تخطّى سعر كثير منه الحدَّ الأدنى للأجور، لدى أغلبيتهم.
لتبسيط الفكرة، سنتحدث عن بعض الأدوية التي اختلف سعرها في لبنان قبل رفع الدعم وبعده. الـ Panadol الذي يُستخدم لعلاج آلام الرأس الخفيفة والمتوسطة (بالمناسبة هذا الدواء تحديداً يُستعمل في لبنان بكثرة، ويقول البعض إنه كشرب الماء) ارتفع سعره من 4 آلاف ليرة إلى 22 ألف ليرة، وبعضه إلى 46 ألف ليرة.
دواء “فاستريل”، لمعالجة أمراض القلب، كان مسعَّراً بـ22 ألف ليرة، وصار اليوم بـ175 ألف ليرة لبنانية. “ليبيتور”، وهو دواء للدهون، ارتفع سعره من 44 ألف ليرة إلى 847 ألف ليرة. “نيبيليت”، دواء للحماية من “السكتات القلبية”، ارتفع سعره من 26 ألف ليرة إلى 147 ألف ليرة. واللائحة تطول. وتُستخدم أغلبية هذه الأدوية مدى الحياة.
بعد اتخاذ القرار فعلياً قبل التمهيد له بـأشهر، من جانب المعنيين، ازدحمت وسائل التواصل الاجتماعي بالقصص التي كنا نسمع بها في البلاد التي تعيش تحت خط الفقر. قصص تُعاش ولا تُروى فقط. أصبح الحديث عن رفع الدعم جزءاً من يوميات اللبناني، الذي انخفضت قيمة راتبه الشهري، حتى أصبحت، بحسب “الدولية للمعلومات”، ضمن الرواتب الأدنى عالمياً.
يروي أحد الصيادلة للميادين نت كيف دخل مريض الصيدلية اليوم، وهو يعاني مرض الدهن في الدم. كانت تكلفة دوائه تُقَدَّر بـ40 ألف ليرة، وأصبحت اليوم 540 ألف ليرة، فاختار مغادرة المكان من دون دوائه، معتبراً أن “الموت أرخص كثيراً”.
الممرضة كريستين (28 عاماً)، والتي تعمل في الجيش اللبناني، اعتادت إنفاق نحو ربع راتبها على أدوية لا غنى لوالديها عنها للبقاء في قيد الحياة، وخصوصاً أنهما يعانيان أمراض القلب الحادة. وكان في وسعها تدبُّر الأمر، إلى أن قلصت الحكومة اللبنانية، التي تمر نفسها في أزمة مالية شديدة، الدعمَ المخصص للأدوية هذا الأسبوع. وتقول كريستين إن سعر الأدوية سيلتهم كل راتبها وراتب والدها (65 عاماً)، الذي يعمل في وظيفة أمنية ليلية. عدد من الصيادلة في بيروت يقولون إنهم لم يشهدوا بعدُ زيادة في إمدادات الأدوية، ويخشون أن يعجز معظم الناس عن شرائها. وبمجرد معرفتهم الأسعار الجديدة، يبتعد بعض الزبائن، أو يسأل أحدهم عن أدوية بديلة.
يُوصَف الانهيار الاقتصادي في لبنان، والناجم عن فساد مستشرٍ في الدولة وعن الهدر وسوء الإدارة، بأنه بين الأسوأ في العالم، بحيث يعاني ثلاثة أرباع السكان حالياً من الفقر، بحسب الأمم المتحدة.
الاقتصاد والتعليم والزراعة وما تبقّى من صناعة، في مهب الريح في لبنان. ويقول المسؤولون إنهم يحاولون “إنقاذ” ما تبقّى، وإن “محاولاتهم” باءت بالفشل حتى اللحظة، لكن رفع الدعم عن الدواء كان بمنزلة الضربة التي ستَقصم ظهر كل عليل.