محمد صادق الهاشمي ||
لقد حذّر المرجع الأعلى في النجف الأشرف آية الله العظمى السيّد السيستاني (دام ظلّه)، في آخرِ بيان له، وكان قد دعا سابقاً الشعب العراقيّ إلى المشاركة الفاعلة في الانتخابات ،وحذّر من حصول (الانسداد) حال تراخت الأُمّة عن دورها ،ومن المؤكّد أنّ التحذير الذي أطلقه المرجع ــ وهو تشخيصٌ مبكِّر لمآلات الأحداث وما تسفر عنه النتائج ــ لم يكن ضرباً من التوقّع أو الاحتمال؛ بل من المؤكّد أنّه استقراء دقيق بفعل مراقبة دقيقة لمجريات الأحداث وفهم النتائج وتحديد الأخطار .
والملاحَظ أنَّ هذا التحذير لم يجد آذاناً صاغية من الجمهور، ولا حتّى من الأحزاب، فالجمهور عزف عن المشاركة، والأحزاب الشيعية تغالبت و تشاطرت و مارست دور المنافسة غير المدروسة في الانتخابات، فأضرّ بعضُهم بعضاً، هذا فضلًا عن فرضية التزوير فكانت النتيجة التي حذّر منها المرجع هي الحاكمة.
الانسداد الحاصل لا نريد أن نبحث في خلفيّاته وأسبابه فهي كثيرة ،وهو نتيجة أخطاء متراكمة وصراعات وإخفاقات ونهب وفساد وشدّ وجذب وتقاذف ونقص في الخدمات وأسباب يطول شرحها، ويتحمّل المسؤولية فيها الجميع؛ لكنّ الأصل فيه هو أنّ مرحلة التظاهرات التي حصلت عام 2019 والتي انتهت بسقوط حكومة عادل عبد المهدي أظهرت أطراف ثلاثة مستثمرة للنتائج، ومستعدّة لرسم الخريطة السياسية لصالحها، وكلٌّ من هذه الأطراف ( التيّار ، والبرزاني، والحلبوسي ) يفكّرون في قيادة العراق، وقيادة مكوّناته بخطّة إلغاء وجود، وفرض وجود جديد في قيادة العراق والمكوّنات، وهي خطّة أمريكية كنتيجةٍ للتظاهرات لخلق حليف قوي يسيطر على العراق، وقريب من التوجّهات الأمريكية ،ووفق هذا جرت الانتخابات، وكانت النتائج وفق هذا المخطّط.
إذن، فالثلاثي تشكَّلَ في تظاهرات عام (2019) وبعده ، فالدّيمقراطي حثّ السير جِدّياً في أنْ يكون المرجع للكرد، ويكون الآخرون تبَعاً له، وهكذا الحلبوسي طرح نفسه مرجعاً للمكوّن السنّي والاخرون تبعٌ له، ونفس القاعدة جرت بخصوص التيّار المقتدائي، فإنّ كثيراً من تغريدات السيّد مقتدى ومواقفه تؤكّد هذه النتيجة التي تعتمد أنْ يكون وحده صاحب القرار في قيادة التشيّع في الحكومة والدولة؛ ومن يُراجع الأحداث يجد أنّ ممثّلة الأُمم المتحدة (بلاسخارت) والاتحاد الأُوربي ساروا بهذا الاتجاه.
إنَّ الانسداد الحاصل تجاوزَ الحدَّ الطبيعي، ولم نجد في الأفق حلّا يلوح في الأفق مكن أن يُطرح؛ لأنّه يحقّق نتائج المخطّطين له حال بقي راسخاً.
والثلاثي له أهداف يمكن تحقيقها من خلال بقاء الانسداد وهي:
1. في الجانب الكردي نجد أنّ البرزاني مُصرٌّ على أن يكون المرشّح من الديمقراطي، والاخرون تبعٌ له، وحتى يتمكّن مسعود من القفز إلى الأمام لا بُدّ من المسك بيدٍ من حديد بموقع مهمّ؛ لأنّ منصب رئاسة الجمهورية يحمل جنبة تشريعية تمكّنه من التنسيق مع الثلاثي لإعادة صياغات الدستور بما يحقّق له مزيداً من الصلاحيات، والتي ترتقي إلى صلاحيات دولة كردية غير معلنة في الجانب الأمنيّ والاقتصاديّ والجغرافيّ والعلاقات الخارجية وسائر التفاصيل.
2. في الجانب السنّي يسعى المحيط الإقليمي إلى ترسيخ القيادة بيد الحلبوسيّ لتنطلق المبادرات الاقتصادية والسياسية وغيرها، والحلبوسي كونه من الأنبار (وهي المدينة المتصلة جغرافيّاً بالمحيط الخليجي يتم التعويل عليها كثيراً أكثر من باقي المدن السنّية).
نعم؛ الخليج يركّز على أن تكون قيادة المكون السنّي من الأنبار تحديداً؛ لكون الموصل مدينة غير مستقرّة وفيها صراع إقليمي ودولي ، وسكّانها السنة متنوّعون بين أقلّيات متعدّدة. وصلاح الدين: غير محاددة للسعودية وهي ملك عشيرة الجبور، والصراع الجاري فيها يشهد بهذا . وديإلى: مدينة لا يعتمد الخليج عليها؛ لأنّ المكوّن الشيعي فيها نسبته كبيرة.
ولا تشكّل المدن السنّية بُعدًا استراتيجيّاً إلى الأهداف والقواعد الأمريكية، وإلى الخليج كما الأنبار ، فالأمريكي والخليجي لا ينظر إلى المدن السنّية كتجمّعات بشرية في ظلّ الصراع الدولي القائم في جوانبه الاقتصادية والاستراتيجية؛ بقدر ما ينظر إلى الجغرافيا العسكرية والاقتصادية، ومن هنا يشكّل الاستيلاء على الأنبار الممتدّة جغرافيّاً على خطِّ رابط بينها وبين السعودية، وبينها وبين الموصل أبعاداً كثيرة، ومن هنا ـ أيضاً ـ رُكِّزَ على أن تكون القيادة من الأنبار، وتوجد تفاصيل أخرى.
3. أمّا في الجانب الشيعي فإنّ التيّار المقتدائي هو المؤهّل لقيادة التشيّع في نظر المحيط الدولي والإقليميّ؛ لما يمتلكه من جمهورٍ ؛ولأنّه ـ حسب رأي الغرب ـ أكثر تيّار شيعي بعيد عن إيران والمقاومة والحشد، ويمكن أن يفعل دوره في تذويب الحشد وربطهم بالمؤسسة العسكرية وفق دراسات أمريكية أبرزها دراسة مايكل نايتس- أحد أخطر وأخبث الكُتَّاب الأمريكيين وأمهرهم في توجيه عجلة السياسة الأمريكية، زميل في برنامج الزمالة “ليفر” في معهد واشنطن، ومتخصص في الشؤون العسكرية والأمنية للعراق وإيران واليمن ودول الخليج، وأول من دعا لفكرة تعويم الحشد الشعبي – ومن المؤكّد أن الاعتماد على التيّار المقتدائي يعدُّ مرحليّاً، وبعده يتم تسهيل عودة مشروع آخر وشخصيات أُخرى.
الاحتمالات والنتائج والسيناريوهات
1. سوف تسخِّر أمريكا والخليج الانسداد للضغط على كلّ الأحزاب للتنازل لها لتكون اللّاعب الأوحد في رسم الخريطة السياسية في العراق مستقبلًا ،وترجّح مَن يوفّر لها المزيد من التنازلات، فيمكن أن تضغط بالتيّار على الإطار وبالعكس، وبالديمقراطي على الاتحاد، وعلى باقي السّنة على الحلبوسي لدفع الجميع أن يتنازل عن الكثير إلّا من ثبت قلبه.
2. حال تمكّنت أمريكا من رسم الخريطة لصالحها وتشكّلت حكومة وفق ثوابتها وينسجم مع مصالحها فبه، وإلّا فإنّ الانسداد يكون نتيجته الخيار الآخر، وهو تقسيم العراق وفق مشروع (جوزيف بايدن) الذي أقرّه الكونجرس عام 2007 بنسبة 75% .
ولكن تجدر الإشارة إلى أنّ التقسيم لا يكون جغرافيّاً؛ بل سياسيّاً وإداريّاً، وهذا ما يفسّر سعي القوم الحثيث في الجانب الشيعي والسنّي والكردي من السيطرة على المحافظات ، وآخرها ما يجري في صلاح الدين؛ لأنّ القوم استشرفوا المستقبل بأنّ العراق قد يمضي إلى الانفصال الإداري الاقتصادي، وهو نفس السبب الذي جعل التيّار المقتدائي يسيطر على عددٍ من المحافظات لتوسعة مساحة سيطرته، ونفس السبب في قفز بافل طالباني على القرار السياسي والشرعية السياسية، والنظام الداخلي ليعلن عن نفسه أنّه القائد الأوحد للاتحاد.
المهم أنّ هذا السيناريو سوف يفكِّك العراق ثمّ يربطه باتحادٍ كونفدراليّ .
3. في المدن السنيّة يجري منذ عام 2018 إعمار خاصّ، واستثمار مخطّط له؛ بهدف فصل هذه المدن إداريّاً، وسوف يتم إرجاع القيادات البعثية للاستيلاء على إدارات المدن، وإعادة تفعيل وجود حزب البعث في الجنوب الشيعي لاحقاً، ولكن بثوبٍٍ ونسخةٍ جديدة لحزب البعث، وفي مراحلَ لاحقة بعد أن يتمّ تفكيك التيّار المقتدائي، وهذا ما يشهد به الصراع داخل التيّار، ومظاهر التجميد والطرد والعمل بعد ذلك على إظهار جيل من البعثيّين.
4. إعادة الانتخابات أمرٌ غير وارد وغير منتجٍ.
النتائج
1. سيطرة أمريكا والخليج على القرار السياسي في العراق من خلال إشغال الحشد والأحزاب الإسلامية في الصراع الداخلي سياسيّاً واقتصاديّاً وغيره .
2. تقليص الدور الإيراني.
3. محاصرة الحشد الشعبي .
4. تفعيل دور حزب البعث من خلال إيجاد بيئة مناسبة له.
خلاصة القول:
إن العمل يجري بدقّة لأنهاء الدولة القديمة؛ التي أحد أركانها القوى و الأحزاب القديمة؛ ليتمّ استبدالها بدولة ذات أيديولوجية جديدة، وقد صدق المرجع السيستاني حينما قال بعد تظاهرات عام ٢٠١٩ (إنّ ما بعد التظاهرات ليس كما قبلها).
أمّا دور الثلث المعطّل فهو كمن يحبس الهواء بأنفاسه.
ليس أمام الإطار الا الثبات والتقدم لتشكيل الحكومة لتحقيق الانتصار
المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي القناة
بإمكانكم إرسال مقالاتكم و تحليلاتكم لغرض نشرها بموقع الغدير عبر البريد الالكتروني