في لقائه مع رؤساء بعض الدول الافريقية خاطب الرئيس الأمريكي ترامب رئيس موريتانيا محمد ولد الغزواني على المباشر، قائلا له لا تضيع الوقت فقط اسمك واسم دولتك، وهذا اسلوب غير ديبلوماسي وله دلالات استعلاء علني فبعد دور الشرطي المعروف عن أمريكا ها هو دور آخر يمكن تشبيهه بالمعلم المتكبر على تلاميذه الذي يطلب منهم في أول حصة اسمك اسم ابوك فقط، طبعا دون ان يتذكر الاثنين بعد سؤاله، فأي سياسة وأي علاقات في هذا العالم الذي اخرج أسوء ما فيه وكأنه يستحضر كوابيسه بالجملة وبتزامن متقن مع هشاشة تعيشها الهيئات الدولية، وبتطابق مخزي مع وضع دولي غير متوازن في شتى المجالات،
وبالعودة لواقعة البيت الابيض وعند الاستماع لحديث الرئيس الموريتاني يمكن تحليل ما حدث بالتركيز على زاويتين اساسيتين وهما الكلمة في حد ذاتها ولغتها المفرنسة ( هذا باستبعاد عامل المدة لأن حديث الرئيس الموريتاني لم يكن مطولا، مع الأخذ بعامل المكان وهو الولايات المتحدة الأمريكية أي أن المضيف سيكون صدره رحبا لضيوفه وهذا المفترض حتى وإن أطال الضيف الحديث، الأمر الذي يؤكد ضرورة استبعاد عامل المدة او أي اطالة مفترضة في كلمة الرئيس الموريتاني ) وعليه يمكن طرح سؤال بسيط يجمع بين المتغيرين الأساسيين: ما الذي ازعج ترامب لدرجة مقاطعة الرئيس الموريتاني وتوقيفه للاكتفاء بطلب اسمه واسم بلده، هل كلام الرئيس الموريتاني في حد ذاته، أم لغته المفرنسة؟
أما عن كلمة الرئيس الموريتاني وفحواها فأقل ما يمكن قوله أنها كانت كلمة غنية بعروض سريعة ودقيقة حول ثروات بلاده مستعرضا ذلك أمام ترامب من باب الاغراء دون شك لأنه لا يمكن التفاخر اقتصاديا أمام الولايات المتحدة الامريكية، ولحد الآن لا يوجد ما يزعج فيما قاله الرئيس الموريتاني فكل الرؤساء يستعرضون فيما بينهم عند اللقاءات آفاق تعاونهم من خلال ابراز مقدرات بلدانهم،
ولايجاد التفسيرات الممكنة والمناسبة لذلك واستنادا لأسس التعامل الأمريكي فتوجد سيناريوهات قليلة لهذه الحالة، اولها قد يكون الاجتماع شكلي واخراجه كان هدفه امريكيا بحتا وهو موجه لتوافقات مستقبلية متضمنة لتنازلات أخرى غير معلنة بل مؤجلة لحينها كالتطبيع مع الكيان مثلا، لأن أمريكا تعرف ثروات افريقيا كلها ولا تخفى عليها موريتانيا، ليقول مباشرة للرئيس الموريتاني توقف واختصر معلوماتك بتقديم نفسك وبلدك، إذًا حسب ترامب أمريكا ليست بحاجة إلى عروض اقتصادية، خاصة وأن بعض دول الخليج قد فتحت مسلكا جديدا بمنحها مبالغ مالية ضخمة لترامب عند زيارته لهذه الدول ليرتفع بذلك سقف التفضيل والتمييز الممنوح لأمريكا، وعند المقارنة وكأن ترامب يفكر في كلام الرئيس الموريتاني وحاله يقول ألم يعلم أنني بمجرد زيارة دول خليجية حصّلت الملايير دون اي صفقة او مشروع معلوم ليأتي هذا الذي لا أعرفه ولا أعرف دولته ليقرأ لي نشرات لا تهمني عن اقتصاد لا فائدة ترجى منه طبعا مقارنة مع المرجعية الخليجية الحديثة، وهو في ذلك مخطأ لأن لموريتانيا وشعبها تاريخ وحضارة خالدة وموقع جيواستراتيجي لا يستهان به،
أما الزاوية الثانية وبالنظر لطريقة تعامل ترامب وعدم صبره لدقائق معدودة من وقته للرئيس الموريتاني الذي كان يتكلم بالفرنسية التي عادة ما يتجنبها رئيس فرنسا نفسه امام ترامب ، ليجد أمامه رئيسا افريقيا يتكلم بلغة ليست لغتهما الإثنين، الأمر الذي أزعج ترامب صاحب هذا الاجتماع المنعقد على ارضه لاظهار دور أمريكي في أفريقيا، ليستمع ترامب للغة تعبر عن إرث فرنسي مستمر ولو على شاكلة لغة ترسخت كواقع بائس عكر صفو الجلسة الأمريكوافريقية حسب ما قدمها الاعلام الأمريكي ( بتحفظ عن التمثيل الأفريقي الذي لا يعبر عنه من خلال هذا الاجتماع فلو كانت إفريقيا ممثلة بدولها الفاعلة لما وقع ذلك على الأقل مع زعماء افريقيين تجمعهم هيئات تنسيق وتشاور داخل الاتحاد الأفريقي ) ، ولعل دليل انزعاج الرئيس الأمريكي من اللغة الفرنسية التي تحدث بها الرئيس الموريتاني هو مدح الرئيس الأمريكي نفسه لانجليزية رئيس ليبيريا، وكأن الواقعة كلها في صف تعليمي يسأل فيه الحضور حتى عن مدارسهم السابقة، ويا لها من قمة غير متكافئة وغير متوازنة وغير محترمة لابجديات اللقاء الشعبوي، فما بال هؤلاء المتابعين لكيل قد طفح لحد التعامل دون مستوى الاحترام،
وهناك إمكانية جمع المتغيرين معا في قالب بسيط مفاده أن ترامب ليس بديبلوماسي ولا وليد مدرسة سياسية بل هو دخيل على الاثنين ويعبر عن ملله بعفوية طفل ثري غير مهذب تحديدا عند تعامله مع ضيوف يمثلون دولا لا تشكل أهمية إستراتيجية ولا قوة لها أمام أمريكا، خاصة وأن العالم وقواعد لعبته اصبحت واضحة وضوح الشمس في كبد السماء، الكبير كبير والصغير صغير، حتى امام الكاميرا، والسؤال الصريح هنا ألم يضرب ترامب حسابا لرئيس موريتانيا وشعبها الذي لن يرضى بهكذا إهانة، أم أن للمباشر هفوات كما يقول مقدموا البرامج التلفزيونية عند تبرير اخطائهم؟ لكن ومن جهة اخرى هل أصبحت لقاءات الرؤساء كحصص تلفيزيونية مباشرة قد يقع فيها المحظور؟ وهنا المرجع الأهم والأساسي سيكون بالاعتماد على البروتوكلات وعلى الدبلوماسية وما لها من دور ضروري في حفظ مقامات الشعوب ودولها بفرض احترام ممثليها ورؤسائها مهما كانت الأسباب،
لكن ومع ذلك ومهما كانت التفسيرات او التبريرات، فالحادثة تعتبر سابقة في لغة السياسة الاستعلائية، والسؤال الأخير أين اولائك الذين كان معول عليهم لضبط كفة توازن مانع لتغول غربي واضح رسخ قانون ومنطق الغاب في هذا العالم؟ والجواب المناسب أن هؤلاء المعول عليهم قد خذلوا الجميع وتحولوا إلى أطراف متصارعة عل حساب البقية، كالصين مثلا، فهي للأسف دخلت معتركها السلبي (تجاه الدول النامية) لبسط نفوذها التجاري ولو على حساب دول كانت في يوم من الأيام سندًا قويا للصين ولسياسته المزعومة ضد الانحياز الذي مكن الصين على الأقل سياسيا بمنحها مقعدا في مجلس الأمن، نهيك عن روسيا التي باعت أسلحة كثيرة لاغلب الدول المهددة غربيا، لكن لم يتغير حالها بل زادها ذلك سوءا في ظل معارك لم تحسم بالمطلق لصالح السلاح الروسي، هذا بالإضافة لسياسة روسيا التي ورثتها عن الاتحاد السوفياتي في التصريحات ودعاية السلاح القوي، الذي ابان على مر السنوات والعقود انه محدود جدا في وجه السلاح الغربي، وبعيدا حتى عن السلاح فروسيا اليوم تغيرت عن الاتحاد السوفياتي في جوهر توجه المعسكر الشرقي السابق وعقيدته الصريحة من حيث قواعد المواجهة مع الغرب، لتهتم روسيا بحدودها فقط أكثر حتى من استمرار علاقاتها مع دول أخرى كانت تعول كثيرا على روسيا، ولكن تركتها هذه الأخيرة لقمة مستساغة للغرب على غرار سوريا وليبيا والعراق ويوغسلافيا، والدروس السيئة كثيرة والمعلم فيها اليوم هو ترامب بلا منازع لأنه لا يحترم ولا يستحق الاحترام.
قناة الغدير الفضائية قناة اخبارية مستقلة