عباس شمس الدين ||
النقد الفني ليس من اهتمامي، ولا في حدود معرفتي، لكني شاهدت بضع حلقات [بشكل غير كامل] من مسلسل يسمى (الجنة والنار)، والحقيقة أن المسلسل قام بدفن الدراما العراقية بمقبرة جماعية، وإلى الأبد، هذا المسلسل الذي لم تُتح له فرصة العرض إلا على (منصة) غير ذائعة الانتشار، إلا أنه جبّ ما قبله.
ولو كان قد عُرض في محطة ذات جذب كبير لكان زلزاله قد صار أضعافا مضاعفة.
الهجمة المسمومة ضده ورائها دافعان؛ الطائفية والذيلية، فأما الذيول والكتاب بالقطعة فقد هالهم أن يروا منتج ثقافة الدولة العراقية المريضة ينهار بضربة من إحدى عشرة حلقة وبممثلين لا نعرف إلا اثنين أو ثلاثة منهم لم يعرف عنهم أداء أدوارا جادة من قبل أو مهمة، ومع ذلك أشعلوا الحريق في الدراما العراقية، وأحالوها رمادا تذروه الرياح، وقد غدت أثرا بعد عين.
الدراما العراقية باستثناءات تُعد على الأصابع هي مرض ثقافي مزمن، مقرف ولا واقعي. وإن كانت مِن حسنة وحيدة للمسلسل فهي فضح هذا الإرث المتهالك. إلا أن حسناته كثيرة، فقد اخرج مما يشبه العدم عدداً من الممثلين الذين يوجهون اللكمات للوعي والذاكرة العراقية.
العفوية التي لا تُحْصَى مفرداتها، والمواطن التي أخرسها دهاقنة الكتابة الممجوجة فظهرت، والبيئة الواقعية التي تجعلك طرفا في النزاع غصبا عن حيادك، واللهجة اليومية العادية التي هربت من قيد الورق، وصارت أنفاسا على السنة ممثليها، وكلها حسنات.
التجريبية في العمل، والمونتاج الوحشي، تحسب له لا عليه، وما زعموه من مفارقة (أصول) العمل الدرامي كان حسنة، فطوال عقود مذ بثت (وحيدة) عام 1938، وإلى اليوم لم تنفع هذه الأصول أصحابها.
فلتكن (الجنة والنار) في الدراما العراقية على الأقل ما كانته (انطباع شروق الشمس) لمونيه في الفن التشكيلي أو (البحث عن الزمن المفقود) لبروست في الرواية، أو (روما) روسيليني في السينما. ولا نقول إنَّها حفار القبور الذي طال انتظاره طويلا ليدفن الجثث البائسة.
أن المشاهد التي استفزت هؤلاء هو (الموكب) و (القراية) و (بالعباس أخو زينب)، والضوء الساطع الذي اختطفه ممثلون لم يأبه بهم أحد كانت المرارة التي تعلّقمها كهنة الثقافة المخمورون.
في كل عمل أخطاء وهفوات ونقص وتضارب، لكن أن يظهر العمل بهذه القدرة الكاسحة التي تجعلك تخجل من الدراما العراقية من المهد إلى اللحد يحتاج إلى دعم ممن يرغب ببقاء بصمة فنية – ثقافية في هذا المجال على وجه التاريخ.
عباس شمس الدين