السيد بلال وهبي ||
✋ “اَلسَّلامُ عَلَى الْحُسَيْنِ، وَعَلى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَلى أَوْلادِ الْحُسَيْنِ، وَعَلى أَصْحابِ الْحُسَيْنِ”
جاء في كتاب الملهوف على قتلى الطفوف: حَدَّثَ جَماعَةٌ مِن بَني فَزارَةَ وبَجيلَةَ قالوا: كُنّا مَعَ زُهَيرِ بنِ القَينِ لَمّا أقبَلنا مِن مكَةَ، فَكُنّا نُسايِرُ الحُسَينَ (ع)، وما شَيءٌ أكرَهَ إلَینا مِن مُسايَرَتِهِ، لِأَنَّ مَعَهُ نِسوانَهُ، فَكانَ إذا أرادَ النُّزولَ اعتَزَلناهُ، فَنَزَلنا ناحِيَةً .
فَلَمّا كانَ في بَعضِ الأَیّامِ نَزَلَ في مَكانٍ، فَلَم نَجِد بُدّاً مِن أن نُنازِلَهُ فیهِ، فَبَينَما نَحنُ نَتَغَدّى بِطَعامٍ لَنا إذ أقبَلَ رَسولُ الحُسَينِ (ع) حَتّی سَلَّمَ عَلَینا.
ثُمَّ قالَ: یا زُهَيرُ بنُ القَينِ، إنَّ أبا عَبدِ اللّهِ (ع) بَعَثَني إلَيكَ لِتَأتِيَهُ. فَطَرَحَ کُلُّ إنسانٍ مِنّا ما في يَدِهِ، حَتّی كَأَنَّما عَلی رُؤوسِنا الطَّيرُ.
فَقالَت لَهُ زَوجَتُهُ -وهِيَ دَيلَمُ بِنتُ عَمرٍو-: سُبحانَ اللّهِ! أَيبعَثُ إلَيكَ ابنُ رَسولِ اللّهِ ثُمَّ لا تَأتيهِ؟! فَلَو أتَيتَهُ فَسَمِعتَ مِن كَلامِهِ. فَمَضى إلَیهِ زُهَير، فَما لَبِثَ أن جاءَ مُستَبشِراً قَد أشرَقَ وَجهُهُ، فَأَمَرَ بِفُسطاطِهِ فَقُوِّضَ، وبِثَقَلِهِ ومَتاعِهِ فَحُوِّلَ إلَی الحُسَينِ (ع) وقالَ لِامرَأَتِهِ: أنتِ طالِقٌ؛ فَإِنّي لا أحِبُّ أن يُصيْبَكِ بِسَبَبي إلّا خَيرٌ، وقَد عَزَمتُ عَلی صُحبَةِ الحُسَينِ (ع) لِأَفدِيَهُ بِروحي، وأقِيَهُ بِنَفسي، ثُمَّ أعطاها مالَها، وسَلَّمَها إلى بَعضِ بَني عَمِّها لِيوصِلَها إلی أهلِها، فَقامَت إلَیهِ ووَدَّعَتهُ وبَكَت، وقالَت: خارَ اللّهُ لَكَ ،أسأَلُكَ أن تَذكُرَني فِي القِيامَةِ عِندَ جَدِّ الحُسَينِ (ع).
ثُمَّ قالَ لِأَصحابِهِ: مَن أحَبَّ مِنكُم أن يَصحَبَني، وإلّا فَهُوَ آخِرُ العَهدِ مِنّي بِهِ.
مقصودي من إيراد هذه الحادثة المهمة التنبيه إلى الدور الذي لعبته المرأة في نهضة الحسين(ع)، وهذه الحادثة واحدة من حوادث أخرى أدَّت المرأة فيها أدواراً رائعة، وقدَّمت فيها أمثولات عظيمة في الفَهم والوعي والبصيرة والعقلانية والإيمان، وصوراً مفعمة بالشجاعة والبَسالة، والثبات ورسوخ القدم، والتضحية والوفاء والإباء والإيثار والفداء.
الحادثة التي نحن بصددها نتج عنها التحاق زهير بن القَين بالإمام الحسين (ع) واستشهاده بين يديه، وفوزه بالكرامة الأبدية، واقتران اسمه باسم سيد الشهداء، كلما زار أحد الحسينَ زاره، وكلما سلَّم على الحسين سَلَّم عليه، وقد نال الكرامة التي ليس فوقها كرامة، وحظي بالشرف العظيم الذي لا يعلوه شرف، ودخل الجنة من بابها الواسع، وهو ذا في جوار الله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في مقعد صدق عند مليك مقتدر، لقد كانت زوجته (ديلم) هي السبب فيما بلغه من هذا المقام السامي، وكان رأيها الفَذِّ وعقلها الراجح هو الذي حوَّل مجرى حياته وبلغ به أحسنَ العواقب وجنَّبه عاقبة السوء.
(ديلم) أو (دَلهَم) امرأة ذات عقل ووعي وبصيرة، عقلها يوازي عقول الرجال بل يتفوَّق عليها، وقد أعطتنا بموقفها درساً بليغاً في التعامل مع المُصلحين، فزهير وصحبه قبل هذه الحادثة كانوا يعرفون الحسين (ع) ويعرفون منزلته عند الله، وأنه سبط النبي الأكرم (ص)، لم يكونوا جاهلين بشخصه ولا بمقامه وموقعه في الأمة، غير أنهم كانوا يأبَون اللقاء به لأنهم كانوا يعلمون أنه ماضٍ إلى الكوفة، فكانوا يخشون أن يُحرَجوا فيلتحقوا بركبه، ومن الطبيعي أن يحدث لهم ذلك فالحسين (ص) ليس شخصاً عادياً، إنه سبط رسول الله، وحجة الله، فلا يُرفض له طلب، ففي ذلك عار الدنيا وغضب الجبّار في الآخرة، لذلك كان الأسلم لهم من وجهة نظرهم أن ينأوا بأنفسهم عنه، رغم أن الطريق جمعهم به، فهم راجعون إلى العراق وهو سائر إليه، والطريق واحد لا بديل عنه، لهذا تقول بعض المصادر كانوا إذا تقدّم الحسين في المسير تأخَّروا عنه، وإذا تأخّر تقدموا، وهكذا بقوا على تلك الحال إلى أن جمعهم منزل من منازل الطريق، فكانت الحادثة التي نحن بصددها.
في الواقع يدرك الباحث المؤمن أن لا شيء يحدث خارج إرادة الله ومشيئته، ويدرك أن الله تعالى عندما يريد لعبد من عباده كرامة فإنه يسوقه إليها أو يسوقها إليه، فالأقدار بيده ولا شيء يحدث خارج نطاقها، والله سبحانه لا يُقَدِّر لخلقه إلا الأصلح والأفضل، فكيف لمن يريد أن يُكرِمهم ويتفضل عليهم بمزيد من عنايته الخاصَّة؟! الأمر تماماً كما قال الله تعالى لنبيه موسى: “ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَا مُوسَىٰ ﴿40/ طه﴾.
ما حدث مع زهير غَيَّر مجرى حياته جذرياً، نقله إلى ضَفَّة أخرى في لحظة واحدة، وجعل عاقبته أحسن العواقب، كان زهير يريد شيئاً وكان الله يريد له شيئاً آخر، كان زهير لا يريد أن يلتقي بالحسين (ع) يخشى على نفسه، معتقداً أن مصلحته أَلَّا يلقاه، وكان الله الرحمن الحكيم يريد له أن يُستَشهَدَ بين يدي الحسين، وأن يرفع ذكره مع ذكر الحسين. وما يريده الله كائن لا محالة، وتلك كانت مصلحة زهير الحقيقية.
كلنا يحدث معنا ما حدث مع زهير، كلنا نرغب في أشياء نعتقد أن مصلحتنا تكمن في حصولنا عليها أو تحقُّقها، وكلنا نزهد في أشياء، أو نتجنَّب أشخاصاً أو نأبى أن نؤدّي أعمالاً نعتقد أن مصلحتنا الواقعية تكمن في تجنَّبها، لكن الله تعالى يأخذنا إليها، يسوقنا إليها دون إرادة منا، يأخذنا على قَدَرٍ إليها، وتكون فيها مصلحتنا الواقعية.
الدرس الآخر المُهِمّ في هذه الحادثة ما نصحت به ديلم زوجها زهيراً بأن يذهب إلى الحسين (ع) ويستمع إليه، بعد أن أظهرت عجبها من عدم إجابته الحسينَ (ع) إذ دعاه. إننا نتعلم منه أن نستمع إلى من يدعونا إلى فكرة أو موقف، ونفكِّر فيما نسمع، فإن كان حقاً فالحق أحق أن يُتَّبع، وإن كان باطِلاً رفضناه، أما أن نصُمَّ آذاننا مسبقاً ونُقرِّر ألا نستمع ففي ذلك مجانبة للحق، وخسارة للحقيقة.
✍️ السيد بلال وهبي
فجر يوم السبت الواقع في: 13/7/2024 الساعة (03:55)