الكرد الفيليون يمطرون غيرةً وشهامةً..!

محمد صادق الهاشمي ||

تعرّض  الكرد الفيليون منذ عشرينات القرن الماضي إلى ضربةٍ في هويّتهم ،  من قبل النّظام الملكيّ العراقيّ، من خلال تشريع قانون الجنسية العراقيّة المرقّمة : «42» لسنة : 1924 م ، وفيه قُسّم العراقيون إلى جنسيتين «فئة أ » ، ويقصد بها العراقيّ الأصليّ ، و«فئة ب» ويقصد بها العراقيّ غير الأصليّ ، أي الشّخص الوافد للبلد فاكتسب جنسيةً ، وأُعطي الوافدون الأتراك العثمانيون «الفئة أ» فأصبحوا عراقيين أصليين ، ومُنح الكردُ الشّيعة الفيليين «الفئة ب» ، فاعتبرت شريحة واسعة من الشّعب العراقي كلّهم وافدين من إيران .

قد جلب عليهم هذا القرار كارثةً ، ففي خلال نصف قرن امتدّ بين الأعوام « 1940 م إلى 1991 م » تعرّضوا إلى سلسلة من التّهجير، وأُسقطت عنهم الجنسية العراقية ، لأسباب سياسية وطائفيّة من قبل الحكومات السنّية المتعاقبة على حكم العراق .

وحينما جاء البعثيون في سنة 1963 م في انقلاب تموز شارك هؤلاء الكرد المظلومون في التّصدي للانقلابيين في بغداد في أحيائهم الخاصّة مثل : «عكد الأكراد ، وساحة النهضة ، وباب الشّيخ ، والكاظمية…» ، ودفعوا لأجل الدّفاع عن عراقيتهم كل غالي .

وصل الأمر ذروته  في الاضطهاد لهذه الشريحة المؤمنة حينما جاءت حكومة الجمهورية الإسلاميّة في إيران بقيادة الإمام الخميني (قدّس سرّه) ، فأعلن البعثيون عداءهم لها ، فكانت الشّرارة في محاولة إغتيال في الجامعة المستنصريّة لأحد رموز البعث طارق عزيز ، ونسبت هذه المحاولة إلى شيعيّ معارض من أصول كرديّة فيليّة ، المرحوم الشّهيد : «سمير غلام» ،فبدأ البعثيون يتهجيرهم إلى إيران ، بوحشيةٍ قلّ أنْ تجد لها نظيراً لها في تاريخ البشرية، اذ سُلبت أموالهم ، وصُودرت عقاراتهم  التي اكتسبوها من عرق جبينهم لسنوات متمادية ، وعمر طويل، فأصبحوا على الحدود الإيرانية لا يكسوهم ، ولا يكسو أعراضَهم إلّا الثّوب الذي عليهم ، وفوق كلّ هذه المصائب زَجّوا بأغلب شبابهم في السّجون ، في عملية تطهير عرقيّ وطائفيّ، وفرّ كثير من أبنائهم وبناتهم على وجوههم خوفاً من طريقة التّهجير الوحشية القاسية .

في دائرة الأمن العامّة ببغداد التقيت بشابٍّ جميل الطّلعة ، وسيم الوجه ، علائم الغيرة والشّهامة والشّجاعة والرّجولة والفتوّة بادية عليه ، سألت نفسي من يكون هذا؟ ! عرفت بعد ذلك أنّه عراقيّ من أهالى الكاظمية عاد بعد تسفيره إلى إيران متسللاً عبر الجبال ثمّ السّليمانية وصولاً إلى بغداد ، وفيها أُلقي  القبض عليه.
وفي أحد أيّام التّحقيق كانوا يرسلوننا إلى مكان خاصّ تتوفّر فيه أدوات وأجهزة التّعذيب في حي النّضال –  وهو مقرّ الأمن العامّة قديماً ، ثمّ نقله طاغية العراق صدام إلى حي البلديات في بغداد – كان معي الحاجّ «خضير» مدير مصرف في بغداد، ومعي أحد المشايخ من بيت سميسم – الشيخ حافظ – ومعي التّاجر الحاجّ «مزهر» أحد تجّار الشّطرة  ، ومعي  «الغبّان» والد وزير الدّاخلية الأسبق (محمّد الغبّان ) ، وكان معنا هذا الشّابّ الوافد من إيران .

وكنت أنا أصغرهم سنّا. بقينا في هذا المكان قيد تّحقيق والتّعذيب أيّاماً، لا يمرّ فيها يومٌ إلّا ويتمّ استدعاء أحدِنا إلى غرفةٍ بجوار زنزانتنا ، عندها تتعالى صرخات الجلّادين ، وصراخ المسجون من شدّة ما ينزل عليه من التّعذيب. ونسمع أيضاً صراخات أخواتنا السّجينات في زنزانة أخرى ، فكان هذا المكان تعذيباً جسديّاً ونفسيّاً .

الشاب الوافد من إيران فقد حاول الانتحار كراراً بضرب رأسه بالجدران خوفاً من أنْ ينهار فيعترف بشيء ، لكنّه لم يفلح في الانتحار ، بل يقع مغمياً عليه  لساعات فيفيق، ويؤخذ للتّعذيب فلم يعترف كما يريد ملازم «عدنان»، والنقيب «عامر» .

ذات مرّة مزّقوا جسده بالسّياط فلم يفلحوا بانتزاع اعتراف منه. ثمّ أُؤتى به لزنزانتنا .

ومرّة ثانية : انهالوا عليه بضربات على جميع أنحاء جسده ، وخصوصاً على رأسه وعلى أعضائه التّناسلية والعمود الفقريّ،  وصفعات على وجهه ، وركل بالأرجل ، ضرب يالسّياط ، وبالانابيب المصنوعة من البلاستك «صوندات الكيبل». ثمّ جِيء به للزّنزانة معنا، مغمىً عليه.

ومرّة ثالثة : استعملوا معه الفلقة ، وفيها يستلقي الشّخص الخاضع للتّعذيب على ظهره فوق طاولة ثمّ يربط جسمه وتُرفع ساقاه إلى أعلى ثمّ يُضرب على باطن القدمين .

وفي مرّة رابعة : رُبط وهو معصوب العين ، ومربوط القدمين ، ويداه مربوطتين إلى الخلف بحبل متين ثمّ شدّ من هذا الحبل إلى مروحةٍ معلّقة في السّقف دارت به ، والضّرب يتناوشه في كلّ مرّة يصيح فيها.

لبث هذا الغيور الكردي الفيلي فترة طويلة صامداً ونحن ندعو الله له ، لكنّه لم يتحمّل العذاب فانهار في هذه المرّة ، وكشف عن سرّه الذي دعاه للعودة ، وانتشر خبره ، إعترف على أمرٍ كان لا يريد أنْ يعترف به ، وكان يريد الموتَ دونه ، ولكنّ ما ناله منهم كان فوق طاقته .

قال للجلّاد أنزلوني أعترف لكم : لقد أتيتُ من أجل أختى الصّغيرة التي هربت من شدّة الخوف حينما هاجمنا رجال الأمن ، لتسفيرنا ، لقد هامت في شوارع الكاظمية ، لا نعرف عنها شيئاً ، فلم تنم عيني ، ولم يغفو لي جفنٌ وأختي هنا ، تأتي بأفكاري آلاف الصّور عنها ، أنا لست سياسياً ، وليس لديّ حزب ، جئت أريد أختي ، لعلّي أجدها أو أموت معها .

كان لايريد أنْ يعترف لأنه يخاف أنْ يبحثوا عنها فيصير مصيرها كمصيره ، ولكنّ لسان حاله يقول لها : اعذريني يا أختاه فهذه نهاية قدرتي وطاقتي.

لم تمضِ إلّا ليلة فأُلقي القبض على أخته في بيت صديقتها ، ووضعوها في الزّنزانة المجاورة لنا التي أعدت للنّساء ، ثم بعد زمن  من ممارسة التّعذيب عليها وعلى أخيها ترامى إلى سمعنا إعدامها هي وأخوها ، وفعلاً صدق قوله : «إمّا أن ترجع معي أو أموت معها» . وإنّا لله وإنّا إليه راجعون .

نسخة منه إلى أخوة النّضال والسّجون في الخضراء.

شاهد أيضاً

وزير التعليم يصدر قراراً بشأن اعتماد سنوات التمديد للأساتذة والأساتذة المساعدين كخدمة وظيفية فعلية

اعلن وزير التعليم العالي والبحث العلمي نعيم العبودي، اليوم السبت، اعتماد سنوات التمديد للأساتذة والأساتذة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *