عادل الموسوي ||
بعد فراق طال لأكثر من ثلاثين عاماً.. كان اللقاءُ بارداً.. إلتقى الشاهدان على موعد خطه لهما دوران الفلك، لم ينتظر أو يتشوَّق أحدهما للقاء الآخر.. كان يوماً عاديّاً كغيره من الأيّام، تبادلا التحية دون عناق، وكأنهما إلتقيا بالأمس أو بداية اليوم، لم يجدد أحدهما العزاء للآخر، لم يبكِ أحدهما على كتف الآخر، لم يستذكرا أحداث تلك الأيّام العصيبة.. كان هواؤها بمثل برودة هذه الأيّام تقريباً أو أشدّ قليلاً.. وأحداثها كانت ساخنة!! كانت أيّاماً داميّة!!
اليوم.. إلتقى آذار بشعبان بعد دورة فلكيّة كاملة..
يتكرر اللقاء فيها لثلاث سنوات أو أكثر، وربّما يدرك الآخِرُ من شعبان الأول من آذار في العام المقبل أو لا يدركه!
ولن يلتقيا مجدداً إلّا بعد أكثر من ثلاثين عاماً أخرى.. حينها نكون جميعاً تحت الثرى، ويكون مواليد عام الإنتفاضة قد بلغوا الثالثة والستين تزيد أو تنقص!!
سيقرؤون في مدوّنات التاريخ أنّ اللقاء كان بارداً جداً..
لم يدوّن شعبان وآذار أحدهما أو كلاهما ما تستحقه تلك الأضلاع الدفينة من سيرة!!
المؤسف أنْ يدوّنها صاحب “الملف” بقلم السلطة القامعة بما أسماه: بـ”صفحة الغدر والخيانة”..
والمؤلم أن تستقبل جنازة المدوِّن لذلك الملف إستقبالاً رسميّاً بمراسم وموسيقى جنائزيّة يعزفها حرس شرف الحكومة التي شارك من بقي من شعب الإنتفاضة في إنتخابها !!
هل كان ذلك بضغط من أوساطٍ ثقافيّة؟!
أَم أنّ الماسكين بزمام السلطة راق لهم ذلك؟!
لقد كانت تلك الأضلاع سلالم للمتسلقين!
اما الآن فقد نُسِيَت!!
الأيّام العصيبة كانت دامية.. وربّما يجرح الخوض في ذكرياتها مشاعر السفّاكين!!
وربّما كانت ذاكرةٌ مؤلمةٌ ووخزةٌ في بقايا ضمير بعض مَن ملكوا زمام السلطة بلا إنتفاضة..
إستحياءٌ أو إسقاطٌ لفرض إحياءِ الذكرى أو استيفاءٌ لما بقيّ من صُبابة ماءٍ في قعر إناء الإنتفاضة.. أُنتِجَ وثائقيٌ هنا وآخرُ هناك، والكل يكتب بقلم السبق ويدعي الريّادة والمحوريّة.. ويخلط أوراقاً.. ويُرَكِّب من تلك العظام ما يشاء من هياكل على مقاسات حزبه الرائد!!
سَئِمَ الناس تلك الحكايات لأنّها باتت تعرض بطرائقَ مملةٍ ممجوجة ملوّنة بأهدافٍ ونوايا واضحةَ..
تلك الصفحات من تاريخ العراق تستحق إعادة التدوين بأقلام رصينة شجاعة، وأحبار صافية ونيّات خالصة.. بملف متوسط الضخامة، مميز، محكم، مجرّد، غير متحيّز إلى فئة، إلاّ الى شهداء الإنتفاضة..
الى وقت قريب ينكر البعض أن تكون تلك المقابر ضمّت أجداث أطفال أو نساء، ويتبجح آخر مفتخراً بأنّه كان من المشاركين في قمع الإنتفاضة، وبأن الأوامر كانت مشددة بالحفاظ على حياة المدنيين!!
غوغاء.. مخرّبون.. متسللون عبر الحدود.. وأوصاف أخرى كتبها المنتصرون في ذلك العهد، ويجترُّها اليوم أتباعهم!!
يقابلها خجل من دعوة للنحيب على تلك الكرات الزجاجية (الدعابل) المدفونة مع تلك العظام الطريّة!!
والجرحُ لمّا يندمل.. لن أنسى تصريح تلك “النائبة”: أنّ “هناك عداء للأيزيديّة من قبل الشيعة لأن عدداً من الأيزيديّة تعاضدوا مع قوات صدام حسين في القضاء على إنتفاضة ١٩٩١ وبإشراف ضباط منهم على قصف مرقد الحسين..”
“لا نحتاج جهود الحشد الشعبي لتحرير مناطقنا..”
ويبدو أن هناك ثقوباً كثيرة في الذاكرة!!
فقبل أسبوع من مثل هذه الأيام من شهر شعبان.. قبل عشرة أعوامٍ تحديداً، كانت هناك مجزرة!!
أيّ مجزرة؟!
“سبايكر”!! وما ادراك ما سبايكر.. ثم ما إدراك ما سبايكر..
توافَقَ حينها شعبان بحزيران..
مضت تلك الأعوام بسرعة!!
شعبان لم يستذكرها هذا العام.. وقد تصرّمت أيامه!!
حزيران؟
سيأتي!
ربّما ينسى هو أيضا أو يزهد في إستذكارها، ربّما إعتمد أحدهما على الآخر!
ربّما علينا أن ننتظر أكثر من عشرين عاماً حيث يلتقيان.. لعل أن يُذكِّر أحدهما الآخر!!
هل سيكون اللقاء كلقاء اليوم؟!
حينذاك سيحل شعبان صيفاً !!
نرجو أن لا يكون اللقاءُ بارداً.. جدا !!
إن إنتظرنا فلا بقينا !!
{.. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ ۗ ..}