بدر جاسم ||
أيها السادة… أكتب لكم هذه السطور، من خلف قضبان السجن، الذي لا انتظر أن يفتح لي بابه يوماً، فزنازينهُ التي بلا أقفال، تمنحني مشاهدة زاوية ضيقة من الفضاء الفسيح، تجود عليَّ بنسمات تغير رائحة البيت النتنة، وتحمل عبق الحرية التي فقدتها.
كثيرةٌ هي المشاهد التي أود أن اصورها لكم، تزدحم عندما أمسك القلم، لكن أكثر ما يؤلمني هي وحدتي وغربتي في بيتي، وكذا الوجوه التي تغيرت كثيراً معي، حتى كلمات العطف والصبر بدأت تؤذيني شيئاً فشيئاً.
كنت أسمع بمسافات الأمان، وكنت أظنها خاصة بالسيارة، أو مع التعامل بالكهرباء ، لكن لم أتوقع ان تكون هنالك مسافات آمنة في الصحة أيضا، فلم أضع مسافة أمنة بيني وبين الأمراض، فقد كنت استجيب لكل غرائزي، وألبي متى ما رغبت به، أكل كل ما اشتهي، واسمع كل ما أحب، وانظر إلى كل ما يمر أمامي، واخلد للنوم مستجيباً لنداء الراحة.
صحتي التي كانت مجهولة عندي، لا اتذكر أنها رفضت يوماً رغبة لي، ولم يدر في خلدي يوماً إنها أشبه بالبطارية التي تفقد طاقتها مع مرور الزمن، ذلك الغادر الذي يتربص بنا في سكون حين يدبُ بأوصالنا التي اتعبتها السنين.
لم احسب لأعضائي حساب، فلم أعرف أنني أضغط على البنكرياس أكثر مما يتحمل، كذلك لم أدرك الترابط فيما بينهن، لقد تجاهلت ذلك تماماً، ولم أعلم إن تجاهلي المستمر لهن سوف يتجاهلني في المقابل أيضا.
شهيتي التي لم اكبح جماحها يوماً ، وفي موسم العنب، تبدأ بالنهم من جميع أنواعه، حتى تكدس السكر في دمي كالجبل العظيم، وهنا بدأت رحلة البنكرياس المسكين أن يزيح هذا الجبل المتراكم، لقد أعلن البنكرياس إضرابه عن العمل، نتيجة عدم الاستجابة لتنبيهاته المتكررة.
احتقرت ذلك الجهاز الصغير، حتى قلت وما بإمكانه أن يؤثر، لقد تماديت كثيراً، واستوجب عليّ أن أحضر للمحكمة، إثر دعوى من ذلك الجهاز الصغير، فما إن وقفت بباب المحكمة حتى سمعت أصواتاً غاضبة شبيهة بمظاهرة إنقلاب تنادي بالقصاص مني، وما أن دخلت القاعة حتى وجدت أعضائي كلها وقد رفعن لافتات تدعو للقصاص وانزال اقصى العقوبات بحقي، بل حتى القلب الذي وثقت فيه وجدته هناك وقد ارهقه التعب مدعياً إني قد اتعبته وحملته ما لا يطيق، وقال أيضا إن كل شراييني ضيقه، ولا تكفي اقطارها لتغذية جميع أعضاء الجسم، نتيجة تناولي الدهون بشكل مفرط.
القاضي وجه لي الكلام وقال ما هو ردك على كل غرمائك وكل هذه الدعاوى؟ قلت يقيناً أنا مذنب، وأعتذر من جميع أعضائي، واتعهد بأن لا احملهن ما لا طاقة لهن به، ثم وجهه القاضي الكلام لبقية الأعضاء وقال هل تقبلن اعتذاره وتعهده، أجابن بصوت واحد، وبنبرة حادة لا، لن نقبل اعتذاره، ونطالب بحكم عادل ينصفنا جميعاً،
طرق القاضي بمطرقته، فعم السكون، وانتبه الجميع، وقال بصوت عالٍ، باسم العدل، حكمت المحكمة على المتهم، بمرض السكري وتصلب الشرايين، وما يتبع هذه الأمراض من نتائج، وعلى المتهم بالألتزام التام بقرارات المحكمة فلا عودة للعمل الطبيعي كما في السابق وخاصة البنكرياس المتضرر بشدة، وأما بقية الأعضاء فكل حسب تضرره، وهكذا فقدتُ صحتي، بشكل تدريجي، حتى وصل الأمر بجلطة دماغية، افقدتني حركة جهتي اليسرى، ودخلت إلى سجني الأبدي، لقد انزلني قطار العافية، ولن يعود ليقلني مرة أخرى. فهل من متعظ؟