عباس سرحان
أهم ما يُميز الدول هو امتلاكها لقرارها وقدرتها على تحديد المسار السياسي والاقتصادي الذي تشاء دون ضغوط او تدخلات خارجية.
وإذا حدث العكس ووقعت دولة ما تحت رحمة تدخل خارجي يؤثر في شؤونها الداخلية، فستصبح دولة فاشلة مشلولة الإرادة تسير في ركاب القوة المؤثرة.
والتاريخ الحديث مليء بما يعزز ذلك، فالتدخل الخارجي شَطَر ألمانيا الى دولتين، شرقية وغربية لعشرات السنين، وحوّل أفغانستان الى دولة فاشلة بعد أن كانت من الدول المهمة في آسيا الوسطى.
وغير ذلك العديد من الأمثلة مما نراه اليوم في السودان وليبيا وسورية، حيث زعزعت التدخلات الخارجية هذه الدول وباتت تهدد وجودها من الأساس.
هذه المقدمة كافية للولوج الى الشأن العراقي، فحين غزت أمريكا العراق في 2003 تحت ذريعة الإطاحة بالحكم الديكتاتوري المتمثل بنظام صدام، كان العراقيون ينتظرون مغادرة أمريكا بلادهم وتركهم يديرون شؤونهم الداخلية بمفردهم.
أو على الأقل مساعدتهم إن طلبوا المساعدة، وهذا الموقف الافتراضي ينسجم مع المدعيات التي ساقتها امريكا مبررا لدخول العراق، فهي “كانت تريد بناء نظام سياسي ديمقراطي، وتمكين العراقيين من حكم أنفسهم بأنفسهم والتمتع بخيرات بلدهم”.!
أليست هذه المدعيات هي ما ساقته أمريكا غطاء لدخولها العراق والإطاحة بحكم صدام الاستبدادي، أين الواقع اذن من تلك المدعيات؟!
في السنوات الاولى للاحتلال الأمريكي، وفي غفلة من الجميع تمكنت الادارة الامريكية من خلط الأوراق وجاءت بتنظيمات ارهابية لإشعال اقتتال عراقي داخلي لتبرير بقائها في العراق.
وحين انكشفت اللعبة وأرغمت امريكا على المغادرة في 2011 حركت مرتبطين بها لزعزعة وضعه الداخلي بمظاهرات طائفية معروفة.
ولمّا فشلت أنشأت بمساعدة دول أخرى تنظيم داعش باعتراف وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم، وتحت هذه الذريعة عادت الى العراق وأنشأت عدة قواعد عسكرية وشيدت سفارة هي الأضخم في العالم وزودتها بصواريخ وأسلحة مضادة للأهداف الجوية .
وهي السفارة الأولى والوحيدة في العالم التي تُسلّح نفسها بأسلحة ثقيلة وتنتهك سيادة البلد المضيف ضاربة عرض الحائط كل الأعراف والتقاليد الدبلوماسية الدولية.
ولما تمكّنَ العراقيون بدمائهم وتضحياتهم من إفشال مؤامرة داعش عمدت أمريكا الى العبث بالشارع العراقي واختلاق أزمات داخلية مثل تسميم احواض الأسماك وإحراق حقول القمح، وافتعال نزاعات مسلحة، وأزمة الكهرباء التي فاقمتها بمنع العراق من دفع ما يشتري به الغاز الإيراني.
وبعد أن اتفق الجانبان العراقي والايراني على مقايضة الكهرباء الايرانية بالنفط العراقي للتخلص من الضغط الامريكي، وحقق هذا الاتفاق نجاحا واضحا وزادت ساعات تجهيز الكهرباء في العراق.
عمدت أمريكا الى اللعب بورقتها الأقوى للضغط على الحكومة العراقية اقتصاديا، فراحت تماطل في دفع ما يطلبه العراق من عملته المودعة بالإكراه في المصارف الأمريكية.
وهذا الامتناع الامريكي من شأنه أن يطيح بالدينار العراقي ويرفع الاسعار في البلاد ويشيع عدم الثقة في نفوس العراقيين ويضع الحكومة العراقية في مواجهة شعبها.
تذرعت امريكا دائما بأنها تمتنع عن الاستجابة لطلبات العراق بإطلاق ما يطلبه من أمواله، بحجة تعرض الدولار للتهريب خارج العراق، ولاشك أن تهريب العملة يحدث في دول كثيرة حول العالم، كما وأن مهربين فاسدين كبار يتنعمون الآن بالحماية الأمريكية ومنهم أيهم السامرائي.
وفضلا عن ذاك، أرغمت أمريكا العراق على بيع نفطه بأقل من قيمته إلى الأردن وإعفاء البضائع الاردنية المصدرة الى العراق من الكمارك.
أليس في ذلك هدرا لحقوق العراق وخسارة تفقده ملايين الدولارات سنويا دون مبرر، وهي تشبه عملية تهريب العملة التي تدّعيها أمريكا؟.
إن ما تسوقه الأخيرة من مبررات للضغط على العراق، إنما هدفه إرباك الوضع العراقي وفرض الوصاية السياسية والاقتصادية على العراق والتدخل في شؤونه بما يخدم الادارة الأمريكية وحلفائها.
ومن الضروري جدا أن تعمد القوى الوطنية العراقية إلى الحد من الوجود الامريكي في العراق وتحرير الاقتصاد من هيمنة الدولار.
فليس من المعقول أن يبيع العراق نفطه بينما أمريكا هي من تستحوذ على عائدات النفط وتمنعه من فتح حساب له في المصارف الدولية الاخرى باستثناء المصارف الامريكية.
لابد من حل لهذه المعضلة لأن تحكم امريكا بعائدات النفط سيمنع العراق من النهوض والاستفادة منها في عملية الاعمار والبناء.
والأخطر من ذلك أن ممارسات أمريكا منذ 2003 تؤكد أنها عازمة على إغراق العراق في مشاكل داخلية لتبقيه ضعيفا لا يقدر على تجاوز مشاكله ولا يمكنه بناء جيشه أو حماية سمائه.
فلمصلحة من تفعل ذلك؟.