قيل الكثير عن الثمن السياسي والاقتصادي والاخلاقي والانساني، الذي تدفعه امريكا، بتورطها المباشر في جرائم الحرب والابادة الجماعية والتهجير القسري الذي يرتكبه الكيان الاسرائيلي في غزة منذ اكثر من شهرين، امام مرآى ومسمع العالم اجمع، وهو كلام بات تحصيلا حاصلا، ولكن الامر الذي لا يقل فظاعة عن هذا التورط الامريكي في العدوان على غزة، هو التناقض الفاضح في مواقف وتصريحات المسؤولين الامريكيين، ازاء ما يجري في غزة، وهو تناقض وضعهم في موقف لا يحسدون عليه بالمرة، واقل ما يقال عنه، انهم ظهروا امام العالم، كدُمى تحركها اللوبيات الصهيونية، وليس كمسؤولين في دولة تحترم نفسها، وتزعم انها “الاعظم” في العالم.
خلال الساعات الاربع والعشرين الماضية صرح كبار المسؤولين الامريكيين، عن العدوان الاسرائيلي على غزة، بتصريحات لا يمكن وصفها الا بالسخيفة والمثيرة للسخرية، فهي متناقضة الى حد السفه، ففي الوقت الذي يعلن فيه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، إن واشنطن تعمل على عودة الهدنة في غزة، الا ان حماس ترفض ذلك حتى الآن”. وفي المقابل وقبل ساعات قليلة من هذا التصريح، نرى جون فاينر معاون الأمن القومي بالبيت الأبيض يقول وبصريح العبارة امام منتدى أمني:” أن كثيرا من الأهداف الأمنية لإسرائيل لا تزال في جنوب القطاع.. ولو توقفت الحرب اليوم فستستمر حماس في تهديد إسرائيل، ولهذا لا نطلب من إسرائيل التوقف”!!.
في ذات التصريح يضيف بلينكن ان “واشنطن أوضحت أن على إسرائيل بذل أقصى جهد لحماية المدنيين وان الإدارة الأمريكية لاحظت خلال الأيام الماضية خطوات إسرائيلية باتجاه حماية المدنيين في غزة”، مزاعم بلينكن هذه تتناقض كليا مع اعداد الشهداء الذين يتساقطون يوما بعد استئناف الكيان الاسرائيلي عدوانه على غزة بعد الهدنة، ففي اليوم الاول فقط، بعد استئناف العدوان، قتلت قوات الاحتلال اكثر من 200 فلسطيني، وان الايام القليلة الماضية كانت من اكثر الايام عنفا من ناحية القصف الوحشي والعشوائي، حيث اختفت مناطق سكنية على من فيها من الوجود، جراء القصف الذي استخدمت فيه قوات الاحتلال قنابل امريكية زنتها طنين من المتفجرات، وبذلك ارتفعت حصيلة الشهداء الى اكثر من 17200 شهيد نحو 70% منهم من النساء والأطفال دون 18 عاما.
يقول بلينكن ايضا ان واشنطن تركز “على منع أي تصعيد يزعزع الاستقرار في الضفة الغربية”، و “أنه بحث مع نظيره البريطاني الحملة الإسرائيلية على غزة، ونحن متحدون في دعم إسرائيل”، لمنع حماس “من ارتكاب فظائعها مجددا ضد الإسرائيليين”. بلينكن يتباهى ان هناك تحالف غربي طويل عريض لدعم جرائم “اسرائيل”، وفي المقابل نراه يستكثر على ابناء الضفة الغربية ان يقفوا الى جانب اشقائهم في الوطن، وكذلك على العرب وفي مقدمتهم اليمن وحزب الله والمقاومة الاسلامية في العراق، الوقوف الى جانب اخوتهم في الدين، وهم يتعرضون لهجمة لا يمكن وصفها الا بالابادة الجماعية، فبلينكن يضع جميع هؤلاء في خانة”الارهاب”، بينما يفتخر وبصلف وعنجهية، بارسال امريكا والمانيا وبريطانيا، بالاف الاطنان من المتفجرات والاسلحة الفتاكة والمحرمة دوليا، الى “اسرائيل” عبر جسور جوية لا تقف لحظة واحدة، كما ترسل الطائرات للتجسس على غزة، والالاف من الجنود، واكثر من 14 مليار دولار، فيما تتكدس حاملات الطائرات والبوارج الغربية شرق المتوسط، كل ذلك من اجل اعادة سمعة “اسرائيل التي لا تقهر”، وهي سمعة مرغها مئات من الشباب الفلسطيني المؤمن بالتراب والى الابد.
التناقض الفاضح لتصريحات المسؤولين الامريكيين خلال الساعات الاربع والعشرين الماضية، وخاصة الحديث عن الهدنة، تعود لثلاثة اسباب، الاول محاولة للتقليل من قيمة الثمن الذي تدفعه امريكا من سمعتها، المشوة اصلا، امام الراي العام العالمي، بسبب تورطها المباشر في جرائم الحرب التي يرتكبها الكيان الاسرائيلي في غزة، عبر الحديث عن الهدنة والممرات الامنة، والتي لا تهدف الا لتحرير الاسرى، دون الاعتناء لما يتعرض له اهالي غزة من فظائع، والسبب الثاني، هو المماطلة والتسويف ، من اجل منح الاحتلال المزيد من الوقت لتحقيق اهدافه من العدوان على غزة، والتي فشل حتى الان عن تحقيق اي هدف منها، وهو ما يعتبر هزيمة لامريكا نفسها والغرب، وكسرا للاسطورة المزيفة عن “اسرائيل” التي لا تقهر، والسبب الثالث، هو تمهيد الارضية للموقف المخزي والعار، الذي من المتوقع ان تتخذه الادارة الامريكية اليوم، بعد تفعيل الأمين العام للامم المتحدة آنطونيو غوتيريش المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، وطلب من مجلس الأمن الدولي للالتئام، من اجل وقف هجمات الكيان الإسرائيلي على غزة، بعد اتساع نطاقها، وقتل المدنيين خاصة الأطفال والنساء وتدمير المنشآت المدنية بما فيها المستشفيات والترحيل القسري لأهالي، وهو ما يشكل تهديدا للسلام والأمن الدوليين.
ليس هناك ادنى شك، من ان الانتصار سيكون من نصيب غزة، وان الغرب وعلى راسه امريكا، خسروا الحرب منذ اليوم الاول، لانهم سقطوا في اختبار الانسانية، فعالم اليوم ليس كعالم حرب فيتنام، فكل ما يجري من فظائع في غزة، تنقل بالصوت والصورة الى العالم، وكفي بذلك دليلا دامغا، على وحشية الحضارة الغربية، التي صدع الغرب بها رؤوسنا قرونا، وكذب شعارتها، وزيف رموزها. ترى هل ينسى العالم، كيف هرول رموز هذه الحضارة، الى الكيان الاسرائيلي، واحتضنوا نتنياهو، الذي يقود بشهادتهم هم، اكثر حكومة ارهابية ويمينية وعنصرية واجرامية في تاريخ الكيان، وفتحوا مستودعات اسلحتهم وخزائن امولهم، وسخروا له امبراطوريات اعلامهم، ليرتكب من الفظائع، بيض فيها وجوه النازية والفاشية وجميع طواغيت العالم؟. كما وهل ينسى العالم، الموقف المخزي لرئيس دبلوماسية الدولة التي تزعم “انها اكبر ديمقراطية في العالم وانها تمثل عصارة الحضارة الغربية” المدعو بلينكن، وهو يصافح نتنياهو بعد ساعات فقط من معركة “طوفان الاقصى” ويقول له دون خجل: “لقد جئت إليك اليوم ليس بصفتي وزيراً لخارجية الولايات المتحدة ولكن بصفتي يهوديا”!!.