تعرضت التجارة العالمية إلى جملة من الصدمات المؤثرة على مدى السنوات الثلاثة الماضية، بدءاً من التداعيات الاقتصادية الشديدة لجائحة كورونا، وما صاحبها إغلاق الاقتصادات، وصولاً إلى الحرب في أوكرانيا وتأثيراتها الممتدة.
ووذلك في خطٍ متوازٍ مع ارتفاع معدلات التضخم حول العالم وسياسات التشديد النقدي التي اتبعتها غالبية البنوك المركزية بهدف كبح جماح التضخم وأثرها على معدلات الاستثمار.
وفرضت حالة عدم اليقين المسيطرة على المشهد الاقتصادي العالمي نفسها بقوة، وأسهمت في اضطرابات لافتة في حركة التجارة الدولية، التي تشهد تراجعاً بوتيرة سريعة عن مستويات الجائحة في ظل تعقد المشهد الراهن وتحت وطأة التطورات الجيوسياسية التي يشهدها العالم.
وفي هذا السياق، كشفت تقرير “مراقب التجارة العالية” للمكتب الهولندي لتحليل السياسات الاقتصادية، عن انخفاض حجم التجارة العالمية بأسرع وتيرة سنوية منذ ما يقرب من ثلاث سنوات في يوليوالماضي، ذلك أن “ارتفاع أسعار الفائدة بدأ يؤثر على الطلب العالمي على السلع”.
وبحسب التقرير الصادر قبيل أيام، ونشرته صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، فإن:
▪ أحجام التجارة تراجعت بنسبة 3.2 بالمئة في شهر يوليوالماضي، مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي 2022، وهو أكبر انخفاض منذ الأشهر الأولى لوباء كورونا في أغسطس 2020.
▪ جاء ذلك في أعقاب انكماش بنسبة 2.4 بالمئة في يونيو، وبينماالأدلة تشير إلى أن النمو العالمي كان يتباطأ.
▪ بعد الازدهار خلال الوباء، ضعف الطلب على صادرات السلع العالمية على خلفية ارتفاع التضخم، والزيادات الكبيرة في أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية في العالم في العام 2022، وزيادة الإنفاق على الخدمات المحلية مع إعادة فتح الاقتصادات بعد عمليات الإغلاق.
▪ كان التحول في أحجام الصادرات واسع النطاق، حيث أبلغت معظم دول العالم عن انخفاض أحجام التجارة في يوليو.
وسجل مؤشر مديري المشتريات العالمي -الذي يتتبع طلبات التصدير الجديدة- انكماشاً حاداً في شهري أغسطس وسبتمبر في جميع أنحاء الولايات المتحدة ومنطقة اليورو والمملكة المتحدة.
ويتوقع الاقتصاديون الآن أن تكون أحجام صادرات منطقة اليورو ثابتة خلال العام، بعد توقع توسع بنسبة 2 بالمئة في بداية العام.
وفي حين أنه من غير المتوقع أن ترتفع أسعار الفائدة أكثر في الأشهر المقبلة، فمن غير المرجح أن تخفض البنوك المركزية تكاليف الاقتراض حتى يكون هناك المزيد من الأدلة على احتواء ضغوط الأسعار الأساسية. ويعتقد المحللون بأن نقص التيسير الائتماني سيستمر في الضغط على الصادرات.
عوامل رئيسية
أستاذ الاقتصاد والمالية العامة بكلية الدراسات القانونية والمعاملات الدولية بجامعة فاروس، أحمد العجمي، حدد في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” مجموعة من العوامل الرئيسية التي تدفع بتباطؤ وتيرة حركة التجارة العالمية، على النحو التالي:
▪ العوامل المرتبطة بالحرب في أوكرانيا (منذ 24 فبراير 2022 وحتى الآن) وما صاحبتها من تداعيات اقتصادية.
▪ الإغلاق السابق في الصين لفترة طويلة بعد كوفيد-19، وعدم التعافي بشكل كافٍ، وبما أثر بشكل كبير على سلاسل الإمداد.
▪ الصراعات التجارية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، والعقوبات المتبادلة بين الطرفين، وفي وقت تأخذ فيه الصين وروسيا منحى جديداً في التجارة الدولية (ضمن مساعي التخلي عن الدولار الأميركي).
▪ ارتفاع التأمين وكلفة شحن البضائع، وبما أثر على أسعار السلع، وفي ظل ارتفاع معدلات التضخم، بما أضعف القدرة الشرائية للكثيرين، الأمر الذي انعكس على معدلات الطلب (بالخفض).
وفي أحدث توقعاتها الاقتصادية، سلطت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية -مقرها باريس- الضوء على كيف أدت القيود التجارية إلى الحد من مبيعات الصادرات منذ العام 2018.
حذرت المنظمة من أن “التجزئة الجيواقتصادية والتحول إلى سياسات تجارية أكثر انغلاقاً على الداخل من شأنه أن يحد من مكاسب التجارة العالمية ويضر بمستويات المعيشة، خاصة في البلدان والأسر الأكثر فقراً”.
وتحدث الأكاديمي المتخصص في الاقتصاد الدولي في الوقت نفسه عن العوامل المرتبطة بارتفاع أسعار النفط، بوصفها من العلامات المؤثرة في المرحلة المقبلة على مستويات التجارة العالمية، وفي ضوء التقديرات التي تشير إلى وصول البرميل إلى 100 دولار قبل نهاية العام الجاري 2022، وبما يؤثر على الأسعار والشحن، وجميعها أمور تنعكس بشكل مباشر على التجارة العالمية.
الصين.. كلمة السر
وأشار العجمي، في معرض حديثه مع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إلى أن عودة التجارة العالمية لمستويات ما قبل الجائحة مرتبطة بمدى التعافي في الصين.
بحسب إدارة الجمارك الصينية، فإن الصادرات (مقومة بالدولار) انخفضت بنسبة 8.8 بالمئة في شهر أغسطس، مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي، بينما انكمشت الواردات بنسبة 7.3 بالمئة في أغسطس الماضي، وكلاهما أفضل من التوقعات، وتسبب ذلك في حدوث فائضاً تجارياً قدره 68 مليار دولار.
كما تحدث العجمي في الوقت نفسه عن أثر السياسات النقدية المتبعة من قبل البنوك المركزية (مع رفع أسعار الفائدة لكبح جماح التضخم) في توجيه الاستثمارات لمصارف استثمارية مختلفة للاستفادة من الفائدة، من بينها أذون الخزانة الأميركية، وأثر ذلك على تدفق الاستثمارات وحركة التجارة.
ونقلت “فاينانشال تايمز” عن الخبير الاقتصادي العالمي في شركة كابيتال إيكونوميكس الاستشارية، أريان كيرتس، قوله “التأثير المتأخر لأسعار الفائدة المرتفعة من المرجح أن يؤثر بشكل أكبر على الطلب على سلع معينة، قد يستغرق الأمر عدة أشهر قبل أن تصل التجارة العالمية إلى أدنى مستوياتها”.
وقال كيرتس إن الطلب على واردات السلع التي يتم شراؤها غالباًباستخدام الأموال المقترضة – مثل السيارات والمفروشات المنزلية والسلع الرأسمالية – سوف يضعف أكثر من غيره.
بينما أفاد الاقتصادي في شركة جيفريز للخدمات المالية، موهيت كومار، بأنه من المرجح أن تتبع التجارة اتجاه النمو الاقتصادي العالمي، حيث توقع “تباطؤاً في كل اقتصاد رئيسي في الأرباع المقبلة”. وإلى جانب ضعف النمو، أثرت التوترات الجيوسياسية أيضا على التجارة.
محطات فاصلة
من جانبه، قال مستشار البنك الدولي، أستاذ الاقتصاد، محمود عنبر، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن ثمة عديداً من المحطات الفاصلة التي تعرضت لها التجارة الدولية خلال السنوات الماضية، بما دفعت إلى تراجعها بأسرع وتيرة، وعدم تعافيها، على النحو التالي:
▪ في البداية كان تأثر التجارة الدولية أمراً طبيعياً ومنطقياً إبان جائحة كورونا، بسبب “الإغلاق الكبير” كما وصفه صندوق النقد الدولي آنذاك، والحالة الصعبة التي مرّ بها العالم، والتي أثرت على العلاقات التجارية بين الدول وبعضها البعض.
▪ إبان إغلاقات كورونا تحول العالم إلى ما يمكنه وصفه بـ “الاقتصادات المغلقة”.. وهي نظرية فرضية يُعتقد بأنها غير قابلة للتحقق على أرض الواقع، لكن الجائحة جاءت لترسخ ذلك الوضع في فترة من الفترات، مع انحسار حجم التجارة العالمية وحالة الإغلاق وتعطل سلاسل الإمداد.
▪ جاءت الأزمة في أوكرانيا بعد ذلك لتفوت أي مؤشرات على التعافي، وهي أزمة سياسية بين معسكرين (الشرق والغربي) ويُعاد معها تشكيل الخارطة الاقتصادية بشكل أو بآخر، سعياً لتحول العالم من عالم أحادي القطبية إلى عالم متعدد الأقطاب، تنافس فيه الولايات المتحدة أكثر من قوة إقليمية.
وأضاف: “لقد فرضت تلك المعطيات حالة من اللايقين على الوضع الاقتصادي العالمي، بمعنى أنه لا أحد يستطيع أن يتكهن بما الذي يمكن أن يحدث خلال الأيام المقبلة، وهو ما انعكس بدوره بشكل مباشر على ثقة المستثمرين في تحقيق الربح، ومدى إقبالهم على الانخراط في أنشطة تجارية واستثمارية”.
ويستدل مستشار البنك الدولي في هذا السياق بالتقرير الصادر عن “مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)” في يوليو الماضي، والذي ذكر أن:
▪ الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي انخفض 12 بالمئة في العام 2022 إلى 1.3 تريليون دولار، وذلك بعد انخفاض واسع في العام 2020 وانتعاشة في العام 2021.
▪ حددت المنظمة عدداً من الأسباب التي دفعت إلى هذا التراجع، وعلى رأسها (الحرب في أوكرانيا، وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، والضغوط التي تفرضها الديون).
▪ توقع التقرير استمرار الضغط الهبوطي على الاستثمار الأجنبي المباشر في العام 2023. وقال إن تمويل المشاريع الدولية وعمليات الدمج والاستحواذ عبر الحدود تأثرت بشكل خاص بشروط تمويل أكثر صرامة (مع ارتفاع أسعار الفائدة) وحالة عدم اليقين التي خيمت على الأسواق.
وحول المؤشرات المستقبلية للتجارة العالمية تبعاً لذلك المشهد المعقد، أوضح عنبر أنه “في ضوء حالة اللايقين الحالية لا يُمكن توقع مآلات الأمور.. الوضع أكثر تعقيداً مما كان عليه إبان جائحة كورونا؛ على اعتبار أنه أثناء فترة الجائحة كان العالم ينتظر لقاحاً يمكن أن يقضي على الفيروس وبالتالي التغلب تدريجياً على التداعيات المصاحبة للجائحة والتعافي منها، بينما الآن الأمر يبدو مختلفاً في ظل الصراع السياسي، ليس بين دولتين وإنما بين معسكرين، والذي لا يمكن توقع ما سوف يسفر عنه”.
وأضاف مستشار البنك الدولي: “مما يزيد تعقيد الأزمة الحالية فكرة استخدام بعض الأدوات التي لم تكن مستعملة على نطاق واسع من قبل كأسلحة في الصراعات، مثل سلاح الطاقة وسلاح الغذاء، بما يضرب سلاسل الإمداد في مقتل ويضعف حركة التجارة الدولية.. وبالتالي فإن الاستمرار في استخدام هذه الأدوات سوف يضعف حجم التجارة أكثر وأكثر ويهدد بنتائج كارثية بشكل كبير”.
وبحسب البنك المركزي الصيني، فإن الإنتاج الصناعي العالمي انخفض بنسبة 0.1 بالمئة مقارنة بالشهر السابق، مدفوعاًبالانخفاضات الحادة في الإنتاج في اليابان ومنطقة اليورو والمملكة المتحدة.
فيما ارتفع الناتج الصناعي الأميركي بنسبة 0.7 بالمئة، مما زاد الآمال في هبوط سلس لأكبر اقتصاد في العالم، مع تراجع التضخم إلى مستويات مقبولة دون التسبب في الركود.