عاصر الامام السادس من أئمة الولاية الربانية والهداية السماوية جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أميرالمؤمنين عليهم السلام أجمعين وكنيته (الصادق)، خلال أيام حياته المباركة ملوكاً فراعنة طغاة مجرمين من بني أمية وبني العباس في حقبة من الزمن كان الصراع بينهما على أشده الى جانب انتفاضات العلويين والزيديين والقرامطة والزنج وسواهم من طالبي السلطة، وشاهد بنفسه محنة آل البيت عليهم السلام وآلام الأمة واهاتها وشکواها وتململها، لفساد السلطة الحاكمة والانحرافات الدينية والعلمية التي باتت تتفشى في صفوف المسلمين دون رادع.
بعد سقوط الدولة الأموية واستيلاء العباسيين، تنكر بنو العباس لآل البيت عليهم السلام وراحوا يفتکون بهم بعد أن کانت دعوتهم تتستر تحت شعار “الدفاع عن آل بيت الرسالة ومظلوميتهم” حيث استمال الناس بحبهم واللحاق بهم، واذا بهم أشد فتكاً وقساوة وعداوة لآل الرسول (ص) من بني أمية، حتى أن خليفتهم الاول (ابا العباس) سمي بـ”السفاح” لکثرة ما أراق من دماء الأمة حباً وطمعاً بالسلطة، فاشتدت المحنة على الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) وضيق عليه وجاهد عدة مرات ونجاه الله سبحانه وتعالى من کيده.
انتهج الامام جعفر الصادق (ع) الفترة الزمنية من إمامته (34 عاماً) طريق نشر العلوم الدينية والحديثة بين المسلمين كسلاح ردع أمام الطغاة والجبابرة المتحكمين بأمور الأمة والمتسلطين على الرقاب، رغم كل الأجواء السياسية المضطربة في جو مشحون بالعداء والإرهاب والتجسس والملاحقة إلا انه استطاع بحکمته وقوة عزيمته أن يؤدي رسالته السماوية وان يفجر ينابيع العلم والمعرفة ويخرج جيلا من العلماء والفقهاء والمتکلمين؛ حيث نشر الوعي العقائدي والسياسي والتفقه في احکام الشريعة الاسلامية المحمدية ومفاهيمها ويثبت لهم المعالم أسسها الربانية الأصيلة، لا تلك المشبوهة التي روج لها بنو أمية الطلقاء وواصل مسيرتها بنو العباس، وهو يقول عليه السلام: “العامل بالظّلم والرَّاضي به والمعين له شركاء ثلاثتهم”، وقوله كذلك “ما من مظلمةٍ أشدّ من مظلمةٍ لا يجد صاحبها عليها عوناً إلا الله عزّ وجلّ”؛ ويجعلهما منهاجاً لنشاطه والتصحيحي ودوره العلمي والتربوي على أكمل وجه ليتمتع الاسلام الحنيف والمسلمون وعامة الناس بالمعارف الالهية والحكم النبوية والأسرار العلوية والحقائق الدينية والدنيوية.
تلك الظروف القاسية والظالمة والرامية الى إبعاد الأمة من سيرتها الحقيقة كانت تتطلب نهوض رجل، عالم، شجاع، يرد عادية الضلال عن حصون الرسالة الإسلامية الحنيفة والسامية في زمن تفشت فيه التيارات العقائدية والفلسفية الإلحادية والمقولات الضآلة، کالزنادقة والغلو والتأويلات الاعتقادية التي لا تنسجم وعقيدة التوحيد.. فقيض الله (جل وعلا) وليه الامام أبا عبد الله جعفر الصادق عليه السلام والذي فاضت حياته بالعطاء، والعلوم الغزيرة المتعددة، من: الحديث، والتفسير، والعقيدة، وسائر أبواب الفقه ، والشريعة.. ونَقلَها نقلا أمينا، عن معارف النبوة المحمدية الخاتمة، نقلاً نزيها عن منابع التشريع، والرسالة، حتى لقّب (عليه السلام ) بـ(المحقق، والصادق وكاشف الحقائق ومكتشف العلوم الحديثة ومنظرها و…) .
كان الامام الصادق عليه السلام كان مرجع الأمة بحق، وإمامها الذي تتلمذ على يديه آلاف الأعلام من الفقهاء والعلماء والمشايخ، بعد أن فتح لهم باب التخصص العلمي في العلوم العقلية والطبيعية كالكلام، والكيمياء، والرياضيات والطب الى جانب أبواب الشريعة الإسلامية حيث وضع الامام الصادق (ع) القواعد الواضحة لمسائل الأصول، والفقه وربِي في تلامذته ملَكةَ الاجتهاد، والاستنباط، كقاعدة الاستصحاب، والبراءة، والضمان، والتخيير، وغيرها لتكون مدرسة حضارية مزدهرة يسير عليها المسلمون على مر العصور دون الحاجة للأفكار الانحرافية و الأجنبية الدخيلة الضالة.
لقصر المقام وضيقه نكتفي بالإشارة الى ما كتبه جلة من علماء العلوم الحديثة والمعاصرة من الغربيين ضمن كتاب يحمل اسم “الامام الصادق كما عرفه علماء الغرب” وهو عبارة عن مجموعة بحوث طرحت في عدة ملتقيات دولية علمية نظمتها جامعة “ستراسبورغ” الفرنسية عام 1968، شارك فيها مئات العلماء من شرق الأرض وغربها استعرضت حياة الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) العلمية طرح خلالها خمسة وعشرون من أشهر العلماء والمستشرقين في جامعات فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وسويسرا وبلجيكا وأمريكا ولبنان وايران وهم:
1. البروفيسور “آرمان آبل” استاذ جامعتي بروكسل، وكان في بلجيكا.
2. البروفيسور “جان أوبن” استاذ جامعة السوربون الفرنسية وله عدّة مؤلفات.
3. البروفيسور “روبرت برانشويتس” أستاذ بجامعة السوربون بباريس.
4. البروفيسور “كلود كاهن” رئيس قسم الدراسات التاريخية، وأستاذ جامعة سوربون.
5. البروفيسور” إنريكو جرولي” أستاذ الدراسات الشرقية ونائب مدير المجمع العلمي الإيطالي بروما.
6. البروفيسور”هنري كورين”رئيس كرسي الاسلاميات وأستاذ الدراسات الاسلامية للدراسات العليا بجامعة باريس.
7. البروفيسور “توفيق فهد ” استاذ جامعة ستراسبورغ الفرنسية.
8. البروفيسور” فرانشيسكو جبرائيلي” كبير أساتذة اللغة العربية وآدابها بجامعة روما الايطالية.
9. البروفيسور “ريتشارد جرام ليخ” استاذ جامعة هامبورغ الألمانية.
10. البروفسور “جرار لو كنت” استاذ قسم الدراسات الاسلامية ومعهد اللغات بباريس.
11. الدكتورة “آن لامبيتون” مديرة معهد الدراسات الشرقية بجامعة لندن البريطانية.
12. البروفيسورة “ايفون لينان دوبل فوند” مديرة معهد الأبحاث العلمية بباريس.
13. البروفيسور “ويلفريد مدلونك” استاذ جامعة شيكاغو الأميركية.
14. البروفيسور “هنري ماسة” مدير قسم الدراسات الشرقية واستاذها بجامعة ستراسبورغ بفرنسا.
15. البروفيسور “جورج ويدا ” استاذ جامعة ليون الفرنسية.
16. الدكتور “سيد حسين نصر” استاذ جامعة طهران ورئيس الجمعية الفلسفية الايرانية.
17. البروفيسور “شارل بلا” استاذ جامعة سوربون الفرنسية.
18. الامام المغيب السيد موسى الصدر رئيس المجلس الاسلامي الأعلى في لبنان آنذاك.
19. البروفيسور “روبرت أرنالديز” استاذ جامعة ليون الفرنسية.
20. البروفيسور” ألياف” استاذ جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس – أمريكا.
21. الدكتورة “دورن هينج كليف” استاذة جامعة لندن – بريطانيا.
22. البروفيسور “فرتيز يمر” استاذ جامعة بال السويسرية.
23. البروفيسور “حوزف مانوز” استاذ جامعة فريبورغ الالمانية.
24. البروفيسور “هانس رومر”.
25. البروفيسور “هانز مولر” استاذ جامعة فريبورغ الالمانية.
استنتجت الدراسات المقدمة للملتقيات نتائج كبيرة جداً لا يسع للمقال ذكرها، نذكر بعضاً منها حتى لا يظن ظان أن أهل البيت عليهم السلام أصبحوا أئمة في الفقه والصلاة والعبادة وحسب بل هم أصل العلم ومعدنه، ومن تلك النتائج:
أولاً: الامام الصادق أول من قال بدوران الأرض حول الشمس.
ثانياً: الامام الصادق أول من أشار الى الأوكسجين.
ثالثاً: الامام الصادق أول من أشار الى الجاذبية.
رابعاً: الامام الصادق أول من أشار الى أن الأعراض لها جزئيات (اللون، الطعم، الرائحة).
خامساً: الامام الصادق أول من فنّد نظرية العناصر الأربعة التي يذهب اليها أرسطو وصححها علمياً.
ومن نظريات الامام جعفر الصادق عليه السلام في الطب التي توصل إليها قبل الآخرين هي “انتقال العدوى عن طريق الضوء، وليس عن طريق الهواء الملوث فقط”.. كما وللامام أبا عبد الله نظريات اخرى في الطب وكذا في الفيزياء والكيمياء والأحياء، والفلك والهيئة والبيئة و… غيرها، ولأهمية ما دار في تلك الندوات فقد تم ترجمة الدراسات وكذلك كتاب “الامام الصادق كما عرفه علماء الغرب”.. الى عدّة لغات.
الأمر هذا لا يروق لاعداء آل الرسول (ص) بتاتاً، فقصد المنصور العباسي حياة الامام الصادق (ع) حوالي 17 مرة وأمر بإغتياله في أكثر من مكان في الحيرة وبغداد والكوفة ومكة المكرمة وحتى المدينة المنورة كما نقل ذلك المفضل بن عمرو والسيد أبو القاسم علي بن طاووس في کتابه “نهج الدعوات”، حيث دعا المنصور قائد من قواده فقال: انطلق الى المدينة في ألف رجل فاهجم على جعفر بن محمد وخذ رأسه ورأس أبنه موسى بن جعفر.. وأحرق بيته (مهج الدعوات ص260)، و(المناقب لابن شهر آشوب ج4 ص280 وبحار الأنوار ج47 ص2 رقم 4).. لكنه لم يفلح في قتل الامام وابنه بل تمكن من حرق الدار فقط.. آنذاك أمر الطاغية المنصور عامله في المدينة محمد بن سليمان بدس السم الى الامام الصادق (ع) ليستشهد مساء يوم الاثنين (25) شهر شوال سنة (148) للهجرة وله من العمر (65) سنة.
ونحن نعيش الذكرى الأليمة والفاجعة الكبيرة ندعو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من شيعة الامام جعفر الصادق كما أراده لنا (عليه السلام).