ما سنراه في السودان بعد انتهاء المعارك، هو أنّ أحد القتلة سوف ينصّب حكومة مدنية ويصيغ دستوراً، ويتحوّل من قاتل إلى مصلح، إنسان أخطأ وعاد إلى صوابه، واستعاد الديمقراطية من خلال انتخابات “شفّافة ونزيهة”.
حرب جديدة في السودان وما زلنا لا نعرف سببها ولا انحياز أطرافها السياسية، لكننا نعرف تماماً هوية ضحاياها وكيف سيموتون وكيف سننعاهم ونوجّه الاتهام لمن خطّط ودبّر ونفّذ.
لن تكون هذه المرة الأولى في تاريخنا الحديث، ويبدو أنها لن تكون الأخيرة. نحن نعرف المتهم بقتلنا لكننا نتواطأ معه، هذا ما فعلته القوى الثورية السودانية مرتين؛ الأولى عندما أسقطت نظام عمر البشير، والثانية بعد انقلاب 2021 وكانت في أقرب نقطة من النصر. كانت الحجة حقن الدماء، وها هي الدماء نفسها تسفك عبثاً، ومن دون أمل بتحقيق أي إنجاز.
يقول مظفّر النواب “وتجذّر فإنّ الجيل الأول لم يتجذّر” وكأن قوانا الثورية يئست من مفهوم الثورة الحقيقية، فخانتها لياقتها الثورية، وسلّمت قيادتها لعدوها الاستعماري، وأصبحت تنشد حلول قضاياها من الولايات المتحدة والناتو، وعزلت نفسها عن قضايا شعوبها وأمتها، لتجد أنها في نهاية الطريق تكاد تخسر كل ما حقّقته عبر تاريخ طويل من النضال.
عبر أكثر من قرنين من الزمان ناضلت الجماهير الكادحة والمسحوقة في كل بقاع الأرض في سبيل حقوقها ومكتسباتها. واستطاعت من خلال تضحياتها تحقيق إنجازات هامة مثل عدالة الأجور، وحرية تشكيل النقابات، وحق المشاركة السياسية والاقتراع. كما استطاعت العديد من الشعوب انتزاع استقلالها وحقها في تقرير مصيرها وإنهاء ما عرف بالحقبة الاستعمارية.
كل هذا النضال كان موجّهاً ضد الاستغلال الذي مثّلته الرأسمالية منذ نشأتها وحتى اليوم. لكنّ الرأسمالية، وكعادتها دائماً، قامت بالسطو على نضالات الآخرين وتحويلها إلى إنجازات لها. وتحوّلت مصطلحات مثل العدالة والديمقراطية والحرية إلى علامات تجارية مسجّلة باسم النظام الرأسمالي، وفي الكثير من الأحيان إلى سلاح تستخدمه الرأسمالية ضد الشعوب والدول التي لا تدور في فلكها. وللأسف صدّقت معظم قوانا “الثورية” هذا الادعاء، وتساقطت الواحدة بعد الأخرى منذ اتفاق أوسلو وحتى اليوم.
لعل أكثر هذه المصطلحات استفزازاً، هو الربط بين الرأسمالية والإنسانية. الاستفزاز لا يكمن فقط في أن النظام الرأسمالي أباد الملايين، وكاد يفني شعوباً عن بكرة أبيها مثل سكان أميركا الأصليين، واستخدم أبشع أسلحة الدمار في حروبه الغاشمة، كما فعل في العراق وأفغانستان، بل في كونه يخرج علينا بحلة جديدة هي الرأسمالية الإنسانية. هذا النظام أعاد إنتاج مفهوم الإنسانية ليتفق مع نمط الإنتاج الرأسمالي، ويتحوّل إلى أداة بيد هذه الرأسمالية لممارسة المزيد من القهر والنهب والهيمنة على الشعوب.
يقول أحد زعماء الليبراليين: “العدو هو الشخص الذي لم تسمع قصته بعد”. مما يعني إمكانية تغيير موقفك من العدو لو سمعت قصته وفهمت دوافعه. فإذا سمعنا قصة الهولوكوست يمكن أن نتفهّم احتلال فلسطين من قبل العصابات الصهيونية، وننظر إليهم كضحايا وليس كمجرمين، ونقبل اقتسام الأرض معهم. الأمر نفسه قاموا بتطبيقه على أسامة بن لادن وأبو محمد الجولاني، واليوم تتنافس القنوات الفضائية على روايتي البرهان وحميدتي وتحاول جرّنا للانحياز إلى إحداهما.
هذا ما تفعله هوليوود عندما تقدّم لنا صورة الجندي الأميركي في فيلم مثل “القنّاص الأميركي” الذي يقتل العراقيين دفاعاً عن زملائه الذين يقتحمون البيوت ويدمّرون الأحياء السكنية. في كل الحالات تطغى الصورة على أفكار المشاهدين، فتغيب عن عقولهم فكرة أن ما يسمعونه ويشاهدونه ليس سوى كذبة متقنة ومصطنعة، وأن الحقيقة تكمن في الأفعال التي يرتكبها هؤلاء على الأرض، وأننا يجب أن ننظر إليهم كأعداء ومجرمين، بغض النظر عما نسمعه أو نشاهده.
هذه الاستراتيجية التي تلجأ إليها الرأسمالية هي استراتيجية “الأنسنة”. فمن الإنساني جداً أن نخطئ… في النهاية لسنا سوى بشر نخطئ، لكن المهم أننا نبادر إلى إصلاح أخطائنا، سواء من خلال سيادة القانون الليبرالي، أو التوبة الدينية. في هذا السياق يمكن أن نتفهّم قيام الجنود الأميركيين بأبشع عمليات التعذيب في سجن أبو غريب، ما دام القانون سوف يحاسبهم وقد يسجنهم أو يسرّحهم من الخدمة تسريحاً غير مشرّف.
ويمكن أن نتقبّل توبة آكل الأكباد أو قاطع الرؤوس إذا أعلنها توبة نصوحاً. هذه الصورة يمكن أن نراها عند جيش الاحتلال في فلسطين، عندما تركّز الكاميرا على جندي صهيوني يساعد أهل المنزل في إخراج أثاثهم قبل أن يقوم جيش الاحتلال بتدمير منزلهم، وقد ينفض التراب عن دمية معفّرة به ويعيدها إلى طفلة تبكي، عندها تقترب المذيعة منه وتسأله عن سبب قيامه بذلك يخرج محفظته ليريها صورة ابنته ويقول إن الطفلة ذكّرته بابنته الصغيرة.
يتسمّر العالم أمام هذا المشهد الإنساني، وينسى تماماً البيت الذي يتمّ نسفه، والطفلة التي حصلت على دميتها لكنها فقدت منزلها وتحوّلت إلى مشرّدة.
المشهد نفسه يمكن أن نراه في السودان بعد انتهاء المعارك، أحد القتلة سوف ينصّب حكومة مدنية ويصيغ دستوراً، ويتحوّل من قاتل إلى مصلح، إنسان أخطأ وعاد إلى صوابه، واستعاد الديمقراطية من خلال انتخابات “شفّافة ونزيهة”. تنتهي “الأنسنة” دوماً بتفكيك الآخر (العدو) وتحوّله إلى الآخر (الإنسان) فيخلع الإرهابي حزامه الناسف ويرتدي بدلة أنيقة ويتحوّل إلى معارض معتدل، ويُستبدل اليميني المتطرف المعادي للهجرة بيساري ليبرالي يطرح برنامجاً معادياً للهجرة باعتدال.
ضمن هذه المعادلة يصبح بايدن “إنسانا مُفْرطاً في إنسانيته” مقارنة بترامب المتطرف، وماكرون مقارنة بلوبان، وعبد الحكيم قطيفان الذي خرج في مظاهرة لشكر أميركا على قانون “قيصر”، وجورج صبرا الذي استنكر اعتبار جبهة النصرة تنظيماً إرهابياً، وكمال اللبواني الذي زار الكيان الغاصب في فلسطين. كل هؤلاء يعتبرون “إنسانيين” مقارنة بأبو عبد الله المحيسني وأسامة بن لادن، وعبد الفتاح البرهان قائد الجيش أكثر إنسانية من حميدتي قائد قوات التمرّد.
ما نعرفه جميعاً، ومن دون شك، أن ما تدّعيه الرأسمالية من إنسانية أو ديمقراطية أو عدالة ليس سوى كذبة يستطيع أي شخص عادي تقديم الأدلة على عدم صدقها. ونعرف جميعاً أن الليبرالية الاقتصادية ليست سوى الغطاء الرأسمالي للفساد ونهب الشعوب. رغم ذلك نناضل في سبيل القيم العليا باستعمال وسائل الرأسمالية ولغتها وأدواتها، ونحن نعلم تماماً أنها لا تبدو فاسدة وكاذبة فحسب، بل إنها فاسدة وكاذبة فعلاً.
إذا كان لا بدّ من الثورة، فلنخضها كما يجب أن تخاض، أو نحقن الدم بالصمت، وننتظر جيلاً قادراً على قطع شوط الثورة حتى النهاية.