شرحبيل الغريب
تأتي ذكرى يوم القدس العالمي هذا العام بنكهة الشموخ والانتصار. وقد تغيرت موازين القوى في المنطقة.
يوم القدس العالمي هذا العام هو الأول بعد معركة “سيف القدس”. “يوم القدس” لم يكن شعاراً سياسياً للاستهلاك. هو يوم أعلنه الإمام الخميني (رحمه الله) في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان من كلِّ عام، نصرة للشعب الفلسطيني المظلوم، ليستنهض فيه الأمة من غفلتها، في وقت كانت “إسرائيل” قد أحكمت قبضتها على مدينة القدس والمسجد الأقصى، ولكن، ومنذ الإعلان عن هذه المناسبة، تغيرت المفاهيم، ولم يعد الشعب الفلسطيني وحيداً.
تجدّد إيران ودول محور المقاومة وحركات المقاومة، من خلال إحياء ذكرى يوم القدس العالمي، مواقفهم العملية الداعمة لفلسطين والقدس والمقاومة وتأييدهم ووفاءهم لها. ولا تكمن أهمية إحياء هذه المناسبة في شكلها الإعلامي، بل تنبع من منظور شامل له أبعاد مهمة، أوّلها الموقف من كيان الاحتلال الإسرائيلي بوصفه “دولة احتلال عنصري”، ثم الموقف من حركات المقاومة الفلسطينية والعربية المحبة لفلسطين، ثم منطق دعم الشعوب المستضعفة في العالم، ورفض وجود أي وجود أو تمثيل إسرائيلي على الأراضي العربية.
تأتي ذكرى يوم القدس العالمي هذا العام بنكهة الشموخ والانتصار. وقد تغيرت موازين القوى في المنطقة، وأصبح للمقاومة محور قوي متكامل يفرض معادلاته كما يشاء، وبات يشكّل كابوساً على مستقبل “إسرائيل”، في وقت بدأ العد التنازلي لزوالها بالفعل في ظل معطيات كثيرة. هذه المعادلات بدأت معالمها تتضح أكثر بعد معركة “سيف القدس” التي خاضتها المقاومة الفلسطينية قبل عام دفاعاً عن المسجد الأقصى.
ما بين ذكرى يوم القدس الَّذي شكّل، ولا يزال، صفعة قوية في وجه “إسرائيل”، ومعركة “سيف القدس” التي أكدت أنَّ القدس هي محور الصراع وبداية معركة التحرير، يتقدم محور المقاومة ويقترب من القدس أكثر من أيِّ وقت مضى، وهو يعد العدة لمحاصرة “إسرائيل” من جبهاتها المتعددة، بعد أن نجح بإسقاط مشاريع الهزيمة في المنطقة، وأفشل مخطط “صفقة القرن” وثقافة التعايش والتطبيع مع “إسرائيل”، ونجح أيضاً بإفشال مخططين خطيرين مؤخراً بفعل تهديدات المقاومة، تمثّلا بإحكام السيطرة على مدينة القدس وتهويدها، من خلال تمرير مخطط مسيرة الأعلام وتكريس القدس موحدة عاصمة لـ”إسرائيل”، ثم مخطّط ذبح القرابين هذا العام، تمهيداً للمخطط الأخطر، وهو هدم الأقصى وبناء الهيكل المزعوم.
ثمة دلالات مهمة في ذكرى يوم القدس العالمي لا بدّ من أن نتوقف أمامها، منذ إعلان الجمهورية الإسلامية الإيرانية هذه المناسبة، مروراً بمحطات طويلة من الصراع مع “إسرائيل”، في ظلّ أهمية وضرورة تثبيت الحق الفلسطيني وعدم التنازل عنه أو التفريط فيه تحت أي ظرف زمان أو مكان.
– تؤكّد إيران، ورغم سنوات الحصار والعقوبات الأميركية والمؤامرات الإسرائيلية، التزامها المتين بنهج سياساتها الخارجية الثابتة تجاه فلسطين كقضية مركزية، وتشدد على أن قضية القدس هي أم القضايا، وأنَّ تخصيص يوم عالمي لها نابع من عقيدة ودين ومكانة عظيمة تحتلها فلسطين والقدس على وجه الخصوص في العقل والوجدان الإيراني.
– بات “محور المقاومة” يشكّل مصدر رعب وقلق كبيرين لـ”إسرائيل”، بعد أن نجح بتعزيز اصطفافاته من حيث البناء والقوة والتحدي، كما نجح بأن يصنع الحدث لا العكس، وهو يتقدَّم شمالاً وجنوباً، ومن جبهات أخرى متعددة، ليحاصر أطماع “إسرائيل” في فلسطين والمنطقة برمتها.
– تؤكد دراسات متعددة صدرت مؤخراً في هذا السياق أنَّ “إسرائيل” التي حسمت الكثير من الحروب أصبحت عاجزة أمام محور المقاومة، وهي تعيش اليوم حالة فقدان الأمن والأمان. إنه الرعب بمفهومه الحقيقي، رغم تطور المنظومتين العسكرية والأمنية الإسرائيلية. وقد تصاعد هذا الشعور، وخصوصاً بعد الانتصارات التي حققتها المقاومة اللبنانية في حرب تموز 2006، والمقاومة الفلسطينية في الحروب التي تشنها “إسرائيل” على قطاع غزة.
– فشلت “إسرائيل” منذ إعلان يوم القدس وحتى اليوم بأن تقضي على روح المقاومة في فلسطين، بعد نجاح محور المقاومة الكبير بإحداث نقلات نوعية سُجلت على مدار تاريخ الصراع مع “إسرائيل”، منذ أن كان الشعب الفلسطيني يقاوم بالحجر إلى أن امتلك الصاروخ الذي يضرب على طول 250 كيلومتراً في عمق فلسطين المحتلة، فتغيرت الموازين، وأصبحت مقاومته تمتلك قوة صاروخية وإرادة وقدرة على هزيمة “إسرائيل” التي لم تعد قادرةً على مواجهتها.
– استمرار إحياء يوم القدس العالمي يعكس نجاح إيران الكبير بتوظيف علاقاتها الخارجية ومكانتها المهمّة في المنطقة لإبقاء قضية القدس حاضرة، رغم مؤامرات التهويد وسياسة كيّ الوعي والنسيان، بل أضحت القدس حاضرةً في فكر دول محور المقاومة والدول المحبة لفلسطين ووجدانها، وعادت إلى الطاولة الدولية من جديد أيضاً، ما يعد فشلاً ذريعاً لاستراتيجية “إسرائيل” ودول التطبيع في الإجهاز على القضية الفلسطينية بشكل كامل.
– عامٌ يليه عام يعكس نهجاً مستمراً تؤكّد فيه إيران وفاءها الكبير لفلسطين والقدس والمقاومة، وهي تقدم واجبها لذوي الشهداء والجرحى؛ ففي الوقت الذي تواصل دورها الأساسي في دعم المقاومة عسكرياً، تعمل جنباً إلى جنب اجتماعياً في رعاية أسر الشهداء والجرحى طيلة سنوات طويلة مضت من مقاومة الشعب الفلسطيني.
وستقوم هذا العام بواجبها المعهود في تقديم مساعدات لذوي شهداء وجرحى معركة “سيف القدس”، ليس في قطاع غزة فحسب، بل في أرجاء فلسطين كافة أيضاً، وفاءً منها للتضحيات التي بذلت دفاعاً عن القدس والأقصى في يوم القدس. وبناء عليه، أقول: شكراً إيران على مسيرة الدعم والعطاء اللامحدود، في وقت باعت دول التطبيع القدس وشهداءها، وتخلت عن مسؤولياتها، وانحصر تضامنها مع فلسطين ببيانات الاستنكار.
في يوم القدس العالمي، أستحضرُ هنا مقولتين مهمتين؛ الأولى للإمام الخامنئي في خطابه الشهير: “العدو الصهيوني بات أضعف من أي وقت مضى، وجيشه الذي كان يقول إنه لا يقهر، هو اليوم، وبعد تجارب الحرب في لبنان وقطاع غزة، تبدل إلى جيش لن يذوق طعم الانتصار”، والأخرى للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، التي قال فيها إن المعادلة التي يجب الوصول إليها هي “أن المساس بالقدس والمقدسات سيؤدي إلى حرب إقليمية”.
ستبقى القدس في يومها العالمي محور الصراع، وسيبقى لها سيف مسلول في وجه “إسرائيل”، ومحور مقاومة قوي، وهو يحميها ويدافع عنها، ولن يحسم هذا الصّراع إلا بتحريرها كاملة من براثن الاحتلال الإسرائيلي.