عادل الجبوري ||
ينطوي يوم القدس العالمي، والذي هو آخر يوم جمعة من شهر رمضان المبارك من كل عام، على دلالات ومعان رمزية ومعنوية مهمة للغاية ترتبط بواحدة من أهم القضايا التي تهم عموم أبناء العالم الاسلامي، وكل أنصار ودعاة الانسانية وقيم الحق والعدل، والانتصار للمظلومين والمضطهدين والمستضعفين أينما كانوا.
قضية فلسطين وما تعرضت له مقدسات ذلك البلد، وأبناؤه على امتداد أكثر من سبعة عقود من الزمن، أي منذ اغتصاب الصهاينة لها في عام 1948، تعد أمرًا مريعًا ومأساويًا بالحسابات الانسانية، فالصهاينة لم يتركوا جريمة إلا وارتكبوها بحق المستضعفين من أبناء الشعب الفلسطيني المسلم، وبعض أبناء الشعوب الأخرى، وساعدتهم ودعمتهم في ذلك قوى كبرى.
وما زال أبناء الشعب الفلسطيني يتعرضون لشتى صنوف العدوان والظلم والاستبداد البعيد كل البعد عن مبادئ كل الرسالات والأديان السماوية، والبعيدة كل البعد كذلك عن القوانين الوضعية المتعلقة بحقوق الانسان وحق الشعوب والأمم في العيش بسلام وأمان.
إن يوم القدس العالمي صرخة المظلومين والمحرومين والمضطهدين والمستضعفين بوجه كل أشكال ومظاهر الظلم والاستبداد والتسلط والطغيان، وهو وإن اقترن بيوم محدد، وبرمز معين، إلا أنه مثل وما زال يمثل رسالة شاملة ومتعددة الجوانب والأبعاد.
والقدس، تعد رمزًا دينيًا عالميًا، ومظلوميتها تعكس صورة مصغرة لواقع الظلم والاستبداد الذي تئن تحت وطأته شعوب ومجتمعات عديدة، في أزمان وعصور مختلفة، وهي تعكس صورة مصغرة لواقع الصراع بين المستضعفين والمستكبرين الذين تحدث عنهم كتاب الله المجيد في مواضع مختلفة.
· يوم القدس العالمي.. دلالات الاستمرارية والتجدد
وإننا كمسلمين وغير مسلمين نعيش هذا الواقع في كل يوم بمظاهر وأساليب وصور متعددة، ونحتاج دائما الى استلهام معاني ودلالات الصراع وأهدافه ومراميه ودوافعه، ومعطياته وحقائقه، واستشراف نتائجه ومدياته على ضوء السنن التاريخية، وليس استنادا الى الواقع المنظور، الذي ربما يرسم صورة مشوهة وغير حقيقية له.
ان الامام الراحل اية الله العظمى السيد روح الله الموسوي الخميني (قده)، كان دقيقًا وعميقًا وثاقب الرؤية والبصيرة حين اختار يومًا معينًا ليكون منطلقًا للتعبير عن كل أشكال ومظاهر النصرة والانتصار للشعب الفلسطيني ومقدسات المسلمين، وقد بدا ذلك واضحًا في بيانه بهذا الشأن، الذي قال فيه “إن يوم القدس يوم يقظة جميع الشعوب الإسلامية، إن عليهم أن يحيوا ذكرى هذا اليوم، فإذا انطلق المسلمون جميعًا، وانطلقت جميع الشعوب الإسلامية في آخر جمعة من رمضان المبارك في يوم القدس للمظاهرات والمسيرات فسيكون هذا مقدمة لمنع المفسدين إن شاء الله وإخراجهم من البلاد الإسلامية.. وإنني أرجو من جميع المسلمين أن يعظموا يوم القدس وأن يقوموا في جميع الأقطار الإسلامية في آخر جمعة من الشهر المبارك بالمظاهرات، وإقامة المجالس والمحافل والتجمع في المساجد ورفع الشعارات فيها، إن يوم القدس يوم إسلامي، ويوم للتعبئة العامة للمسلمين”.
بعبارة أخرى، ربما أراد الامام الخميني(قده) أن يقول إنه ينبغي أن يتجاوز احياؤنا واستذكارنا ليوم القدس العالمي حدود الزمان والمكان، ويمتد الى جوهر المفهوم ومصاديقه الكثيرة، لأن الصراع بين الحق والباطل، وبين الظلم والعدل، وبين معسكر المستكبرين ومعسكر المستضعفين قائم ومتواصل، ونتيجته النهائية يعبر عنها قوله تعالى (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين).
ولعل هذه القراءة الدقيقة والعميقة تمحورت حول فكرة إمكانية استقطاب المسلمين ضمن مشاريع وحدوية من شأنها تغيير الواقع عبر تكاتفهم وتلاحمهم، واستثمار وتوظيف القواسم المشتركة والابتعاد عن كل مواضع الاختلاف والتفرقة والشقاق.
لقد نجح الامام الخميني(قده) أيما نجاح في قلب المعادلات، وتصحيح المسارات، فبدلًا من أن يكون النظام الحاكم في ايران حليفًا استراتيجيًا للكيان الصهيوني، كما كان عليه الحال في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، فإنه أصبح بعد انتصار الثورة الاسلامية في ربيع عام 1979، يمثل خط المواجهة والدفاع الأول، ولأن القضية الفسلطينية لا تعني العرب فحسب، بل تعني المسلمين على وجه العموم، والانسانية قاطبة، فإن الامام الخميني(قده) أراد أن تكون رسالة الدعم والاسناد والنصرة متواصلة لا انقطاع فيها ما دام الاحتلال قائمًا ومعه كل مظاهر الظلم والقمع والحيف والاستبداد ومصادرة الحقوق، ويوم القدس العالمي في الجمعة الأخيرة من كل شهر رمضان مثل تلك الرسالة المتواصلة والحية، التي أريد لها أن تكون عالمية الأبعاد والمضامين، وباتت كذلك بالفعل، وما المسيرات المليونية التي تخرج في شتى بلدان العالمي الاسلامي وغير الاسلامي في كل عام الا دليل صارخ على عالمية وشمولية رسالة يوم القدس العالمي.
يقول أحد الباحثين “عندما أعلن الامام الخميني (قدس) الجمعة الأخيرة من شهر رمضان يوما عالميا للقدس فإن هذا الاختيار لم تكن تقف وراءه اعتبارات سياسية وان كانت آثاره ذات طابع سياسي بل هي فكرة دينية شعائرية أيضًا، فشهر رمضان هو أقدس الشهور، ويوم الجمعة هو اقدس الايام، وعندما يتم اتخاذ اقدس يوم في اقدس شهر للتذكير بأقدس قضية في تاريخ التوحيد، فحينذاك تكتمل عناصر التعبئة الروحية لدى المسلمين الى جانب الصيام والقيام وعتق الرقاب من النار والصدقة والتوبة واحياء ليلة القدر، فتكون ذكرى القدس مكملة لتلك العبادات، والهدف منها ابقاء الشعور بالمسؤولية الفردية لدى كل مسلم تجاه احتلال مسجده المقدس الذي هو ليس أقل شأنًا من الأرواح والأعراض والأموال، وبذلك يبقى المسلمون ذهنيًا في دائرة مشروع التحرير المؤمل، فهم إن لم يكونوا قادرين على القتال من أجل تحرير الأقصى حاليًا فهم قادرون على الأقل من خلال هذه المناسبة على ابقاء القضية الكبرى ماثلة في أذهان الأجيال، ذلك لأن الصهاينة يستخدمون عنصر الزمن واستراتيجية النسيان لطمس هذه القضية الاسلامية المقدسة”.
ولا يختلف اثنان، في أن الامام الخميني(قده) بصرخته المدّوية أحيا القضية الفلسطينية وأعادها للحياة، لأن القدس تهم كل دعاة الانسانية، ويوم القدس العالمي هو في الحقيقة، فضح للطبيعة الارهابية والعنصرية لكيان “اسرائيل” الغاصب ومن يقف معه أو يتغاضى عن جرائمه، ويعد انتصارًا لجبهة المقاومة، ليس في فلسطين فحسب، وانما في كل بقاع العالم، وحيث وجد الظلم والاستبداد، حتى لدى قوى الطغيان والاستكبار العالمي.