سماهر الخطيب ||
يبدو أنّ الإدارة الدبلوماسية الروسية للأزمة السورية بشقيها الناعمة والصلبة والتي كانت مرافقة لمسار الأزمة منذ بداية اندلاعها حتى اليوم الذي أعلنت فيه لقاءات استانة عن نهاية الوساطة ونضوجها، للانتقال إلى الحوار المباشر ما بين سورية وتركيا، وما يحويه هذا الحوار من نقاط عالقة بين الطرفين، أولها جدولة زمنية لانسحاب القوات التركية من شمال سورية، وثانيها إيجاد حل للمقاتلين الأجانب المتواجدين في أدلب وبعض مناطق الشمال السوري والذين بدأوا بالصراع فيما بين فصائلهم وتصفيتهم من قبل “جبهة النصرة”، أو بالتوجه نحو شمال شرق الفرات حيث القوات الأميركية وتهريبهم نحو العراق، أو بالهروب نحو “غازي عينتاب” ثم إلى “إسطنبول” ليصار إلى تهريبهم عبر البحر إلى أوكرانيا ومنهم من هرب نحو أوروبا، فكان هذا الملف الشائك أيضاً إحدى الملفات المطروحة للحل والعمل على تصفية تلك الفصائل واجتثاث بؤرها الإرهابية وتجفيف مستنقعاتها بإرادة رباعية (سورية – روسية – إيرانية – تركية)، ليبدو أنّ هذه الحوارات هي الفصل الأخير في إدارة الأزمة دبلوماسياً، سعياً وراء تنفيذ بنود القرار 2254 والحل السياسي عبر الحوار السوري – السوري، بعد أن عملت الدول الحليفة والصديقة لسورية إلى إبعاد كل الأطراف الخارجية المتحكمة بـ”معارضة المنصات” وتغيير جهة التجديف لتصبح تلك الأطراف بحوار مباشر مع الدولة السورية، وفق دبلوماسية العقدة عقدة وإعادة التموضع لكل الأطراف وتنظيمها وتأطيرها بالشكل الصحيح والسليم دولياً بما يتناسب مع مبادئ الأمم المتحدة القائلة بإحلال السلم والأمن الدوليين، بعد الفوضى التي أوجدتها الولايات المتحدة الأميركية بسياساتها التخريبية للمنطقة..
وبالتالي يصبح الحوار السياسي وفق القرار 2254 حواراً سورياً – سورياً بعيداً كل البعد عن التدخلات الخارجية خاصة فيما يتعلق بدعم بعض الدول العربية والغربية لفصائل المعارضة التي كانت تطالب بما تمليه عليها تلك الدول تحقيقاً لمصالحها وليس ما تمليه عليها المصلحة السورية، ومع ابتعاد وتخلي عن دعم تلك الفصائل بات الحوار اليوم منظم بجهود الدول الحليفة والصديقة لسورية ليصبح الحوار على ثلاث جبهات وهي: سوري – عربي، سوري – إقليمي، سوري – سوري وهو ما يعطي نتيجة أكثر فعالية وفق معادلة رابح – رابح ..
وفي ذات السياق ومع نجاح التجربة الدبلوماسية الروسية في سورية في فكفكة العقد التي أوثقت رباطها السياسات الأميركية المصلحية في المنطقة، ومع بدء التمرد العربي والإقليمي والدولي على تلك السياسات بعد أن اتضح لها أخيراً معنى المصلحة الخاصة بعيداً عن المصالح الأميركيّة، وأنه وبالعامية “المتغطي بالتوب الأميركي عريان” والدليل المشهد “الهزيل” للإنسحاب الأميركي من أفغانستان، وتخليها “المذل” عن حلفائها أعطى بالدليل القاطع أن الولايات المتحدة تتخلى عن حلفائها في سبيل تحقيق مصالحها الفردية فقد قالها سابقاً دونالد ترامب “أميركا أولاً” وهو القول نفسه الذي كان مسماراً في أسفين نعش الولايات المتحدة الأميركية والسبب في نهوض حلفائها من ثباتهم العميق والبحث عن مصالحهم في عالم جديد تحكمه التعددية القطبية ونهاية القطب الأميركي، وإن كانت الولايات المتحدة مصرّة على تجاهل تلك التحولات الجيوسياسية العالمية فليكن إذاً نظام ثنائي القطبية أو أحادية معكوسة من الغرب باتجاه الشرق..
ومن هنا جاءت دعوة الخارجية الروسية لعقد اجتماع تشاوري بين روسيا وجامعة الدول العربية ومجموعة من الدول الإقليمية للتسوية في الشرق الأوسط، عقب فشل اللجنة الرباعية المكونة من (روسيا، الولايات المتحدة الأميركية، الاتحاد الأوروبي، الأمم المتحدة) في إيجاد حل لأزمات الشرق الأوسط بعد أن اتضح جلياً عدم حياد الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين بما يتعلق بأزمات المنطقة وتحديداً الصراع العربي – الإسرائيلي وتوجهها نحو ابتكار معاهدات “سلام” مع الكيان المؤقت على حساب القضية الفلسطينية وعلى حساب أهالي غزة والضفة وحتى القدس، ناهيك عن الملف السوري واليمني وغيره من الملفات التي أشعلتها الولايات المتحدة وحولت المنطقة إلى بؤر صراع متعدد التسميات بدون أي تسوية للمنطقة وإن وجدت فهي على حساب شعوب المنطقة، وباعتبار التجربة الروسية باتت تجربة ناجحة قياساً بما حققته في سورية فهي اليوم بدعوتها للقاء التشاوري تسعى لاستبدال تلك “اللجنة الأممية” بـ”لجنة أقليمية” تكون فيها الوسيط والضامن، بعيداً عن الإملاءات الأميركية وتطبيقاتها المصلحية، وقريباً من أهل المنطقة الفاعلين على اعتبار “أهل مكة أدرى بشعابها” تسعى روسيا إلى إشراك الدول الإقليمية في إيجاد تسوية للشرق الأوسط كإيران وتركيا وحتى دول افريقيا المجاورة للمنطقة.. وما يمنحنا التفاؤل بقدرة روسيا على إيجاد نتيجة ربحية في تسوية أزمات الشرق الأوسط عبر لجنة أقليمية هو نجاح مساعيها الدبلوماسية بشقيها الصلبة والناعمة وإغلاق “صندوق باندورا”، الذي فتحته أميركا وحلفائها في سورية..
وبالتزامن مع هذا الحضور الروسي القوي في ملفات المنطقة الشائكة وربطاً بما ذكرناه في مقال سابق تحت عنوان (روسيا في “قلب التنين” ماذا عن المقاتلين الأجانب؟!) الذي أوردنا فيه عن تاريخ الصراع الروسي – الناتوي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي حتى اليوم واستكمالاً فمن المرجّح أن يكون تمرّد “قوات فاغنر” عندما شكك قائد قائد “فاغنر” بمبررات الحرب الروسية في أوكرانيا وألقى باللائمة على وزارة الدفاع لدفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لخوض غمار هذه الحرب، ودعوة الرئيس بوتين قوات “فاغنر” للعودة إلى رشدها ووصفه لما قامت به بالغدر والخيانة، خاصة وأن تلك القوات وفرت حضور روسي فاعل في أفريقيا وتحديداً في تشاد ومالي وبوركينا فاسو وكذلك في السودان مع قوات “الدعم السريع”، وهذ ما يرجّح احتمالات عدة منها (الغدر والخيانة) وفق وصف بوتين وبالتالي تنفيذ الأجندة الغربية، وبالتالي إضعاف الجيش الروسي وتقدمه في أوكرانيا وأفريقيا، وهو ما سيدفع حكماً إلى تفكيك تلك القوات بعد أن باتت في موقف تضع نفسها في كفة ميزان مقابل كفة الجيش الروسي، وهذا حكماً يقع في خانة ذاك الصراع ليسطر فصل جديد من فصوله.. أو احتمال تكرار سيناريو “ثعالب الكرملين” وعراب نهب روسيا “بوريس بيريزوفسكي” الذي كان يكبر على حساب ضعف روسيا، وهو ما نجح بوتين بالقضاء عليها حينها، ليتكرر السيناريو عينه مع قوات “فاغنر” فهل هو لوحده أم لديه “ثعالب” وهل سيحتوي بوتين وفق استراتيجيته المرنة احتواء هذا التمرد والتي لطالما كان متيقظاً للصدمات الخارجية وتعديل استراتيجيته وفقاً لتلك الصدمات دون أن يعدل على الأهداف..
في المحصلة، هناك عالم جديد يتكون وعالم قديم ينهار، والدول اليوم صاحبة القرار إما أن تنهض أو تنهار.. ومن يراهن على كسب رضا الأميركي (سواء كانت دول أو قوات) فإنّ رهانه خاسر واختار الحصان الخاسر في السباق والبيدق الخاسر في رقعة الشطرنج الدولية..
المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي القناة
بإمكانكم إرسال مقالاتكم و تحليلاتكم لغرض نشرها بموقع الغدير عبر البريد الالكتروني