في مشهد غير مسبوق داخل أروقة الأمم المتحدة، اهتزّت قاعة الجمعية العامة مع بدء رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلقاء كلمته، فما إن اعتلى المنصة حتى وقف عدد كبير من قادة العالم وممثلي الدول الأعضاء، ليغادروا القاعة بشكل جماعي، في رسالة سياسية صاخبة لا تحتاج إلى تفسير. هذا الموقف لم يكن بروتوكوليًا، حيث كان صرخة سياسية مدوية تقول إن زمن الحصانة الإسرائيلية في المحافل الدولية قد انتهى، وأن العالم لم يعد يتسامح مع جرائم الحرب ولا مع خطاب التبرير والإنكار والإجحاف الإسرائيلي.
كما أن مشهد الانسحاب كان أبلغ من أي كلمة، حيث أن القاعة التي لطالما كانت منصّة للترويج للسياسات الإسرائيلية، تحوّلت فجأة إلى فضاء فارغ يفضح عزلة غير مسبوقة لحكومة الاحتلال، ويُعدّ أوضح تعبير عن اتساع الهوة بين المجتمع الدولي وحكومة الاحتلال التي ترتكب إبادة جماعية في غزة.
وتزامن الخطاب مع مظاهرة حاشدة في ميدان تايمز سكوير القريب من مقر الأمم المتحدة، حيث شارك فيها آلاف المحتجين من ولايات أميركية عدة، مرددين هتافات رافضة لاعتلاء نتنياهو منبر الأمم المتحدة، ومتهمة إياه بارتكاب إبادة جماعية في غزة. وحمل المحتجون الأعلام الفلسطينية ولافتات ترفض حرب الإبادة الجماعية في القطاع، وأخرى تدعو إلى إنهاء تلك الحرب ووقف استهداف المدنيين الفلسطينيين.
“العالم يدير ظهره لإسرائيل” الخطاب الذي وُصف بالضعيف والمرتبك أثار الجدل في الكيان الإسرائيلي أيضُا، حيث اعتبر المحللون خطاب نتنياهو خطابا حربيا لا يبشر بإمكانية إبرام صفقة ويرسخ عزلة “إسرائيل” عالميا بسبب سياسات حكومته. وانتقد زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد أداء نتنياهو في الأمم المتحدة، مشيراً إلى أن “العالم اليوم شهد رئيس وزراء إسرائيلياً مُنهكاً ومُتذمراً، في خطاب مثقل بالخدع المستخدمة”. وأضاف لابيد، “لم يقدّم نتنياهو خطته لإعادة المخطوفين، ولم يقدم حلاً لإنهاء الحرب، ولم يفسر لماذا لم تهزم حماس بعد عامين”، مردفًا: “بدلاً من وقف التسونامي السياسي، زاد نتنياهو اليوم من تدهور وضع دولة إسرائيل”.
ومن جهته، قال رئيس حزب “أزرق أبيض” بيني غانتس، إن “رئيس الوزراء، وصف بوضوح ودقة الحرب العادلة والضرورية التي نخوضها من أجل أمننا، ومن أجل استقرار المنطقة والنظام العالمي”. وأضاف: “كما أننا نكافح النفاق الدولي الذي يُقارب معاداة السامية، وسنواصل ذلك. إلى جانب ذلك، يبقى أن الدور الرئيسي لرئيس الوزراء ليس الكلام، بل الفعل”، موضحاً، “ليس فقط التحدث مع المختطفين، بل ضمان عودتهم. ليس فقط التحدث عن استبدال حماس، بل السعي لتشكيل حكومة بديلة”. وتابع: “إذا بادرنا بمقترحات، وإذا تشاركناها مع أصدقائنا في المجتمع الدولي، وإذا عملنا أيضاً على الساحة السياسية، فسنتمكن من استغلال العالم، لا مجرد انتقاده”.
في حين ركز الصحفي الإسرائيلي البارز والمحلل العسكري رون بن يشاي على تجاهل نتنياهو “بشكل كامل كلام رئيس السلطة محمود عباس (أبو مازن) الأخير، واعتراف أبي مازن بدولة إسرائيل”. وتعليقا على الخطاب، ذكر مراسل القناة الـ12 أنه يتابع “كل خطابات نتنياهو في المحافل الدولية منذ عقدين، لا أذكر خطابا أسوأ وأفشل من هذا، حتى على صعيد تلعثمه وعدم سلاسة إلقائه”. “العالم يبصق بوجه إسرائيل” وأشارت القناة الـ12 العبرية إلى أن مغادرة عشرات الحاضرين قاعة الجمعية للأمم المتحدة لحظة بدء كلمة نتنياهو “هو إثبات لنظرة العالم لإسرائيل”. وأوضحت أن الوفد الإسرائيلي حاول تدارك الموقف فوقفوا يصفقون، وأشار مراسل القناة إلى أن قاعة الأمم المتحدة التي بها نتنياهو فارغة بالكامل تقريبا. أما مراسلة القناة الـ13 فعلقت “عندما يغادر الدبلوماسيون الأجانب القاعة واحدا تلو الآخر فور بدء خطاب نتنياهو، فإنهم لا يبصقون في وجه نتنياهو، بل يبصقون في وجه إسرائيل”. وذكرت بعض المواقع الإخبارية أن بعض عائلات الجنود الأسرى لدى المقاومة تظاهروا خارج مبنى الأمم المتحدة. فيما وصفت القناة 13 العبرية المشهد بأنه خروج جماعي غير مسبوق مقارنة بالعام الماضي، معتبرة أن ما جرى يترجم حجم الاحتجاج الدولي ضد سياسات الحكومة الإسرائيلية، في حين رأت القناة آي 24 أن مغادرة الوفود بمجرد دخول نتنياهو كانت دلالة رمزية قوية على هذا الرفض. وأكدت مذيعة بالقناة 12 أن هذا الخروج الجماعي لحظة بدء الكلمة شكّل رسالة سياسية واضحة، مشيرة إلى أن نتنياهو لم يتعرض في السابق لمثل هذا الموقف، وهو ما اعتبره محللون دليلا إضافيا على أن العالم يدير ظهره لإسرائيل ويزيد من عزلتها. وشدد المحلل في القناة 13 على أن هذا المشهد لا يترك مجالا للتأويل، فهو يختصر الموقف الدولي الرافض لإسرائيل، في حين أبرزت القناة 11 أن العنوان الأبرز في الصحافة العالمية لم يكن مضمون الخطاب، بل مشهد الانسحاب الجماعي الذي طغى على الكلمة. فيما وصف مقدم البرامج السياسية في القناة 12 عراد نير الخطاب بأنه “خطاب حرب” يكرّس استمرار العدوان على غزة، معتبرا أنه افتقد الأمل والحلول السياسية، كما أشار إلى ارتباك نتنياهو في بدايته وأخطائه اللافتة في الأسماء، وهو أمر غير معتاد منه. من جانبها، رأت المؤسِّسة المشاركة في “ائتلاف الأمن الإقليمي” ليئان فوليك دافيد، أن نتنياهو حاول عبر بعض الحيل إبقاء كلمته في الذاكرة، لكنها اعتبرت الخطاب خاليا من الحقيقة ومن أي مضمون حقيقي، مشددة على أن الحل يكمن في التوصل إلى صفقة بشأن الأسرى والمخطوفين.
بدوره، قلل المستشار الإستراتيجي رونين تسور من أهمية النداء الذي وجهه نتنياهو للمخطوفين، قائلا إن خطابه افتقد الصدق، إذ لم يواجه الحقيقة المتمثلة في أن قيود ائتلافه الحكومي تمنعه من التوصل إلى صفقة لإطلاق سراحهم، مما يجعل الأولويات الحزبية تتقدم على مصيرهم. أما الوزيرة السابقة عن حزب الليكود ليمور ليفنات فقد اتهمت نتنياهو بالكذب على عائلات المخطوفين، معتبرة أن كلماته لم تؤثر فيهم بعد مرور عامين على احتجاز أبنائهم، مضيفة أن خطابه لا يعكس سوى استمرار الأزمة التي أوصلت إسرائيل إلى “مكانة منحطة وصعبة جدا”. وشددت ليفنات على أن نتنياهو لم يتردد في استغلال منصة الأمم المتحدة لإرسال رسائل خطابية جوفاء، لافتة إلى أن ما ينتظر إسرائيل داخليا وخارجيا أشد خطورة، وهو ما يجعل عزلة تل أبيب تتعمق أكثر مع كل خطاب من هذا النوع. “مسرحية سياسية” ومن جهتها، لفتت صحيفة ليبراسيون الفرنسية إلى أن نتنياهو افتتح خطابه بتصفيق من أنصاره وصيحات استهجان من وفود غادرت القاعة، قبل أن يرفع من حدة لهجته بمهاجمة الدول الغربية المعترفة بفلسطين، متهما إياها بالاستسلام لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”. وتابعت الصحيفة أن نتنياهو زعم أنه بث خطابه عبر مكبرات صوت داخل غزة ليتمكن الرهائن المحتجزون لدى حماس من سماعه، غير أن هذه الخطوة فجرت غضبا داخل إسرائيل نفسها، حيث اعتبرها كثيرون استعراضا غير محسوب يهدد حياة الجنود. صحيفة “هآرتس” العبرية، أشارت إلى رسالة غاضبة بعثها أهالي الجنود الإسرائيليين لرئيس الأركان ووزير الحرب، اتهموا فيها القيادة السياسية والعسكرية بالاستهتار بأرواح أبنائهم، وكتبوا لنتنياهو أن أبناءهم ليسوا أدوات في “مسرحية سياسية”، مطالبين بإنهاء الحرب التي وصفوها بغير المبررة. وفي سياق موازٍ، ذكرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب خيب آمال نتنياهو وحكومته، بعدما أوضح بشكل صريح أن خطط ضم الضفة الغربية لن تتحقق، رغم آمال المستوطنين المتشددين الذين استبشروا بعودته إلى البيت الأبيض. وأضافت الصحيفة أن الضغوط الدولية لعبت دورا محوريا في تراجع ترامب عن مواقفه السابقة، مما شكل ضربة قاسية لنتنياهو، في وقت يواصل المستوطنون فيه على الأرض فرض وقائع جديدة عبر البناء والتوسع الاستيطاني. من جانبها، سلطت صحيفة الغارديان الضوء على نشاط شركات علاقات عامة أميركية وظفتها الحكومة الإسرائيلية لتسويق روايتها عن الحرب على غزة. وكشفت أن بعض الحملات تروج لفكرة “الخوف من أطفال إرهابيين” لتبرير مقتلهم، وسط دعم إعلامي أميركي متواصل وتقييد متعمد لعمل الصحفيين المستقلين. وتضيف الصحيفة أن استهداف الصحفيين الفلسطينيين ومنع وصول الإعلام الأجنبي إلى غزة سمح بتمرير تلك الروايات دون مواجهة حقيقية، في وقت تتسع فيه الانتقادات الحقوقية للانتهاكات الإسرائيلية بحق المدنيين.
أما موقع بوليتيكو الأميركي فقد أشار إلى أن الحرب على غزة قد تؤثر في مشاركة “إسرائيل” في مسابقة الأغنية الأوروبية “يوروفيجن” العام المقبل، بعد تهديد دول مثل إسبانيا وأيرلندا وسلوفينيا بمقاطعة المسابقة إذا سُمح لإسرائيل بالظهور فيها. وذكرت الصحيفة أن اتحاد الإذاعة الأوروبية سيصوت على القضية في نوفمبر/تشرين الأول المقبل، مشيرة إلى أن المسابقة تؤكد عادة طابعها غير السياسي، لكنها استبعدت روسيا عام 2022 بعد غزوها لأوكرانيا، مما يفتح الباب لتكرار السيناريو مع إسرائيل.
عزلة غير مسبوقة للاحتلال وصف الحقوقي المصري، أحمد فوقي، ما شهدته قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة، من انسحاب جماعي لغالبية الوفود لحظة صعود بنيامين نتنياهو إلى المنصة، بأنه يعكس عزلة غير مسبوقة للاحتلال الإسرائيلي على المستوى الدولي، ورسالة واضحة بأن جرائم الحرب والإبادة لا يمكن تبريرها بخطابات سياسية جوفاء. وأضاف فوقي أن هذا المشهد حول القاعة إلى شاهد حي على الرفض العالمي لسياسات الاحتلال، مشيرًا إلى أن الخروج الجماعي جاء أبلغ من أي كلمة، إذ أظهر أن المجتمع الدولي لم يعد مستعداً للتغاضي عن الانتهاكات الممنهجة بحق الشعب الفلسطيني. وأوضح أن ما جرى يرسخ حقيقة أن “إسرائيل” تفقد شرعيتها الأخلاقية يوماً بعد يوم، وأن محاولات تلميع صورتها على المنابر الدولية تصطدم بواقع الإدانة والرفض.
وشدد على أن عزلة “إسرائيل” في المحافل الدولية يجب أن تتحول إلى ضغط سياسي وقانوني دائم، يضع حداً لسياسة الإفلات من العقاب، مؤكدًا على أن العدالة لفلسطين لن تتحقق إلا بإجراءات ملموسة توقف العدوان وتُنهي الاحتلال.
قناة الغدير الفضائية قناة اخبارية مستقلة