محمد عبد الجبار الشبوط ||
الانطباع الثاني الذي تكون عندي عن القران هو انه كتاب علم، او انه “العلم”. وباضافة هذا الانطباع الى الانطباع الاول، اي الهدى، يكون الانطباع الثاني ان القران الكريم كتاب هداية عن طريق العلم، والعقل والتدبر.
تكون هذا الانطباع من خلال عدة ايات مثل قوله تعالى: “وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ”. وهي نفس العبارة التي قالها ابراهيم لأبيه او عمه: “يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا”. وواضح من هذين التعبيرين ان القران الكريم يعتبر منظومة المعارف الوحيانية علما، بل يستخدم ال التعريف في توصيفها بانها هي “العلم”.
و العلم بمعناه العام ضد الجهل، ضد التقليد الاعمى، ضد الخرافة، ضد الهوى، ضد المعلومات غير المثبتة. والقران كعلم يعني كل هذه المعاني. ويعني ان ما فيه مطابق للواقع. وبذا يكون القران مصدرا موثوقا للمعلومات التي يوردها في حقل اهتماماته. القران يقدم للقارىء منظومة معرفية متكاملة للدين، بما فيه معرفة الله ومعرفة المعاد وما بينهما والرابط بين الانسان والله اي النبوة، ومنظومة القيم العليا التي تحف بالمركب الحضاري للمجتمع البشري بما يكفل تحقيق الحياة الطيبة للانسان والاستمتاع بخيرات الارض والطبيعة والدنيا دون نسيان الاخرة وما يتوجب على الانسان فعله كي لا يخسر نفسه فيها. وهذا العلم من متطلبات استخلاف الانسان في الارض وهو المركز القانوني الذي جعله الله للانسان. ولهذا نص القران على ان الله “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا”، ومن المعاني المحتملة لهذه الاية ان الله جعل في الانسان القدرة الفائقة على التعلم والاستكشاف بدلالة ايات اخرى مثل قوله تعالى: “الرَّحْمَٰنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ “، ثم دعاه الى طلب الاستزادة من العلم:”وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا”.
وقد عرفتُ من خلال القران ان الهداية عن طريق العلم والعقل والتدبر ترفض “الهداية” عن طريق الجهل او الخرافات او التقليد الاعمى. وقد عالج القران هذه المسألة معالجة دقيقة في احدى السور المكية التي جاء فيها:
“وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا . وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا ً، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا ، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً . وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً . قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً.”
لقد تجاوزت البشرية، بنزول القران، المرحلة التي عاصرت الانبياء السابقين مثل موسى وعيسى حين تطلب اقناع الناس بالرسالة الالهية القيام بمعجزات مادية خارقة كما نقرأ في قصة موسى: “فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ”، وقوله:”فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ”. او في قصة عيسى:”إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ.”
ببعثة النبي محمد نزل الاعلان النهائي بتحكيم العقل، واللجوء الى العلم، وتنشيط التفكير، للوصول الى الهداية، ونبذ الجهل والخرافة والتقليد الاعمى .
يتبع