حيدر عبد الرزاق النصراوي ||
إنَّ نَظرةَ الإنسان إلى الحياةِ ومَفاهيمها في شتّى المَجالات، بَل وَحتى في عواطفهِ وَأحاسيسهِ كُلّها، تَدور حَول مِحور العقيدة التي يتبنَّاها وَيوجّه طاقاتهِ وإمكاناتهِ لتحقيقِ غاياتِها ولكِن، تختلِف الوَسائل بإختلاف المبادِئ والقيّم التي بُنيَت عليها، مِمَّا تضطَّره الحاجة أحياناً إلى تَعنيف الخُصوم ومُحاولة استهدافهِم بأيِّ وَسيلة.
إنَّ مُخطّطي الحُروب ذات الأبعاد العَقائدية (الدينية) وَمُشعِليها وَمُنفّذيها وعَلى مَرِّ العصور, يروّجون لشعاراتٍ تحثُّ شعوبهم على الدفاعِ عن عقائِدِهِم وطائِفتهم والاستِبسَال من أجل ذلك, وعلى هذا الأساس تُوضع الأُسس وَالمبادئ العسكرية لجيوشِهِم.
ومَا حرَب الكيان الصِهيوني وحُلفائهِ اليوم ضِدَّ قِوى دول مِحور المُقاومة الإسلامية، إلاّ حَرب عَقائدية بإمتياز كونها لا تُقاتلهم بوسائلِ الحرب المُتعارف عليهَا، بَل حسب ما تَعتقده الديانة اليهودية وَتعتمده السُلطة الحاكِمة في الردعِ وَالمُواجهة، كونَهُم كانَوا ومَا زالوا يُشكِلون تهديداً يُنذِر بِاِفشال مُخطَّطاتهِا وَتحقيق غاياتِها ويُوعِد بإزالةِ دويلتِها.
الحَربُ على العقيدة
مفهوم الحرب لُغةً (المصدر، العين للفراهيدي 213/3) هو نقيض السِلم، ويُقال رجلٌ مُحرِب، أي شُجاع، وفلانٌ حَرْبُ فلان، أي يُحاربه وتُعرَّف الحَرب إصطلاحاً (المصدر. تاج العروس للزبيدي 249/2) بإنّها: صراع بين مجموعتين، تسعى إحداهما لتُدمِّر الأخرى، أو التغلُّب عليها.
أمَّا الحرب في القانون الدولي (الدليل العلمي للقانون الإنساني)، هو ظاهرة عُنف جَماعي مُنظم يؤثر إمّا على العلاقات بين مجتمعين أو أكثر أو على علاقات القوة داخل المجتمع، وتخضع الحرب لقانون النزاع المسلح، والذي يُطلق عليه أيضاً القانون الإنساني الدولي.
أمَّا العقيدة لغةً (لسان العرب، مادة عَقَد) فهي مأخوذة من العَقْد، وهو نقيض الحلّ، وأمّا إصطلاحاً: هي مجموعة الأفكار أو القواعد أو المبادئ أو القيم المُترابطة التي تقدم تصوّراً من شأنه أن يكون راسخاً في النفس ويحصل بسببهِ الانتماء أو الاتصاف بمضمونِ ذلِك التصوّر، وتختلف العقائِد بإختلافِ مَضمونها فهناك عقائِد دينية كعقيدة التوحيد وعقيدة النبوة, وعقائِد سياسية كالشيوعية والرأسمالية وهي مَا يُسمى بالآيديولوجيات وَهناك عقائِد فلسفية كالمثالية والماديّة وعقائِد علمية كالتطورية والوَضعية.
أمَّا فيمَا يخصُّ موضوع بحثنا، فَهي العقيدة العسكرية والتي تُعرَّف بطرقٍ مختلفةٍ في دول مختلفةٍ (العقيدة العسكرية. دليل مرجعي. بيرت تشايمان)، وهذه التعريفات المُختلفة للمصطلح تتأثر بعدَّة عوامل وتأخذ طبائِع الدول بإختلاف سياستها وأوضاعِها وتاريخها، وكذلك بإختلاف نُظم حُكمها وإختلاف الثقافة التي تؤطر علاقة حُكامها بمحكوميها، كما إنَّها تُحدِّد المذهب العسكري المشروع وَتمنحه الصِفة الأخلاقية والإنسانية.
كما أنَّ هناك عدَّة عوامل دينية (عقائدية) تُسهِم في بناء النظام السياسي للبلدان وبالتالي تكون هي الأساس في تثبيت ركائِز العقيدة العسكرية لأيِّ بلد من البُلدان وينعكس هذا الدور على الأساليب القتالية المُتبعّة لتلك الدول.
إنَّ الأحداث الجارية والحرب القائمة بين الكيان وحلفائه من جهة ودول مِحور المُقاومة من جهة أخرى، مَا هي إلا تجسيد للعقيدة العسكرية ذات الطابع العَقائدي، لأنَّ أسباب تَداعيات هذه الحَرب، مُرتبطة بِما يدينُ ويعتقِد به طرفا النزاع.
لا سيّما في ما يتعلق بحُرمة الأماكن المقدَّسة ورِواياتِ آخِر الزَمان التي يسردها كلٌّ من الدينيْن (محمد جلال مصطفى هو ديبلوماسي مصري سابق، وحالياً باحث في كلية هيلر للسياسة والإدارة الاجتماعية في جامعة برانديز)، وهي بِرُمّتِها عوامل تُفسد كُلَّ إحتمالات قيام سلامٍ دائمٍ بين الجهتين، فيَرى الصهاينة المتدينون المُتطرفون في إسرائيل أنفسهم أكثر فأكثر، على أنَّهم أوصياءُ الدولة اليهودية ومسؤولون عن تحديد شَكلِها مُستقبلاً، ويُبدون حَزماً كبيراً حينَما يتعلق الأمر بأيِّ تنازلات للمُسلمين العرب، ومن جهةٍ أخرى تُدافع الفَصائِل الإسلامية في فلسطين ولبنان والجمهورية الإسلامية والعراق واليمن وسوريا والبحرين، عن ضرورة تحرير الأراضي والأماكن المقدَّسة لأسبابٍ دينيةٍ أيضاً.
وهُنا يجب التأكيد على أن كِبار مَراجع أتباع أهل البيت سلام الله عليهم وَعُلمائِهم في العالم ومنذ بداية إعلان الدويلة اللقيطة لليهود، وما قبلها من إرهاصات وإلى الآن من أيام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء وإلى أيام السيد روح الله الخميني مروراً بالسيد الحكيم فالسيد الخوئي (قُدِست أرواحهم) وبعده السيد علي الخامنائي والسيد علي السيستاني وكُلّ المراجع المُعاصرين (أدامهم الله)، في موقف جليٍّ وواضحٍ أشدَّ الوضوح في نصرة القضيّة الفلسطينية وحثِّ المسلمين على نُصرة الشعب الفلسطيني، لذا فإنَّ العقيدة العسكرية في سياق دويلة الكيان تُعد أحد أهم ركائِز الأيديولوجية اليهودية في تشكيل المجتمع الإستيطاني في فلسطين.
ركّزت التنظيرات المُبكرة للكيان على أولوية القوة العسكرية في إقامة وصيانة تلك الدويلة المزعومة وإعتمدت عقيدتها العسكرية على ثلاثة مبادئ مركزية وهي:
- الردع.
- الإنذار المبكر.
- الإنتصار الحاسم والسريع.
وما كانَ خِطاب النتن ياهو في 25 تشرين الأول 2023، بعد العملية البطولية التي نفذتها كتائب القسام وأسمتها بطوفان الإقصى، الذّي أعلن فيه قرار الحرب والمواجهة والردع، إلا خطاباً يحمل الصِبغة العقائدية الدينية اليهودية، ويُجسِد الخِطاب الذّي تأسست عليه دويلة إسرائيل في فِكرِ العلماني ثيودور هرتزل (مؤسس الحركة الصهيونية) قبل أن تتحول فكرة الدولة إلى واقع ملموس وذلِك في يوم السبت 15 أيار/مايو 1948.
وقد بيَّن النتن ياهو حينها إعتماد إستراتيجيتي حَرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، اللذين ترتكبهما قواتهِ في غزَّة، وإستعان بنبوءة إشعياء في خِطابه التوراتي، حين قال: (نحنُ أبناء النور فيما هُم أبناءُ الظلام، وَسوف ينتصِر النور على الظلام وَسوف نُحقق نبوءة إشعياء، لن تَسمعوا بعد الآن عن الخرابِ في أرضِكُم، وسنكون سبباً في تكريمِ شعبكُم وسنقاتل معاً وسنحقِّق النصر).
الخاتمة
مِمَّا يخفى على الكثير مِنَّا، إنَّ الحرب القائمة الآن بين دولِ مِحور المُقاومة مِن جهةٍ وَالكيان وحلفائه مِن جِهةٍ أُخرى هي حربٌ مصيرية للطرفين.
ومنَ خلال مُتابعة سير المعركة نستنتج تَمسُّك قوات الكيان ببشاعة أساليب قِتالِهم وإعتمادهم إستراتيجية الضاحية (إستراتيجية عسكرية تعتمد على الردع بإستخدام القوة المفرطة، وتنتهج قتل المدنيين والتدمير الكامل للبُنية التحتية المدنية، للضغط على الخصم بهدفِ قَلب موازين المعركة لصالحها) في مواجهة دول المحور، بالإضافة لإستهدافهم لقادتها وزُعمائها،
وكان آخر المُستهدفين الشهيد القائد والسيّد المُقاوم أمين عام حزب الله لبنان السيد نصرُ الله (رضوان الله عليه) ظنَّاً منهم، إنَّ مثل هذه الإستهدافات ستعمل على تراجُع فصائِل مِحور المُقاومة عن أهدافها أو زَعزعة قوامِها على الأقل، إلى جانب ذلك إستخدامهم أساليب الخِداع والإشاعة، كنشرِهِم لصورةِ المرجع الدينيِّ الكبير السيد علي السيستاني (دام ظلّه) ووضعها في بنك أهدافهم أو إشاعة خبرِ عَمَالة القائد الكبير قا آني قائد فيلق القُدس وغيرها الكثير، مَا هي إلا خُطوة بإتجاه إثارة مَشاعِر المُقاومين والساندين والداعمين لهم، بِإسلوب ديناميكي نفسي مُتقن
ولكِن، ما لا يعرفوه إنَّ الحَرب التي تَخوضها دولِ مِحور المُقاومة، تَمخضَّت عَنها نَتائِج إيجابيّة وَبعثت برسائل عِدَّة إلى الأطراف التي تَبجحت بتطبيعها من جِهة، وأثبتت للآخر تكاتفها وَوِحدة ساحاتِ مواجهاتها ضِمن خطَّة إستراتيجية مدروسة ومُتقنة تُنفّذ بإمكانات وَقُدرات تُمكِّنها مِن خوضِ الحربِ جَوَّا وَبَرَّا وبحراً، بجميع مُستوياتِها وفوقَ مَا يتصوَّره الكيان وحُلفائه، وَلا مَناص من الزوال.