الحرب الناعمة الامريكية وآثارها على العراق

علي الشمري ||

المقدمة
لم تكتف الولايات المتحدة الامريكية بتهديد العالم والتدخل في مقدرات الشعوب ،وكان لاستخدام القوة الصلبة تأثيرا سيئا على الولايات المتحدة لما يتسبب في ارهاق الميزانية الفدرالية ،ويخلق ردات فعل سيئة لدى المجتمع الامريكي وأسباب اخرى .لذا ابتدعت أساليب جديدة من الحروب لتنتقل من الحروب الصلبة الى حروب تستخدم أساليب هادئة وناعمة لتنفيذ نفس الاهداف دون أن تضطر الى اطلاق طلقة واحدة ،وهو مابات يعرف بالحرب الناعمة.في تقريرنا هذا سنتطرق الى نشأة القوة الناعمة وأهدافها العامة واهدافها في العراق ،كما سنستعرض بعضا من تأثرها على بلادنا.

تعريف القوة الناعمة
يعدّ مفهوم القوة من المفاهيم الأساسية في علم السياسية وعلم الاجتماع السياسي، وهو الحاكم الأساسي للعلاقات بين الدول. وللقوة أكثر من تعريف لا مجال للإحاطة بتفاصيله هنا، لذلك سنكتفي بتعريفين:
الأول لـ روبرت دال فهو يقول إنّ القوة هي: «القدرة على حمل الآخرين على القيام بما لم يرغبوا في فعله»
أما الثاني فهو لـ كارل فريدريك Carl Friedrich Gauss الذي يقول إنّ «القوة هي في إنشاء علاقة تبعية بين طرفين يستطيع من خلاله الطرف الأول أن يجعل الطـرف الثاني يفعل ما يريد أيّ التصرف بطريقة تضيف إلى مصالح مالك القوة»
وبناء على هذين التعريفين، فإنّ القوة أو التهديد باستخدامها لهما تأثير كبير في النظام الدولي، وقد يدفع بالدول الضعيفة التابعة والمجتمعات المخترقة للقيام بأعمال أو إجراءات معينة، وكذلك الامتناع عن القيام بممارسات أخرى منعاً للتعرّض لتبعات استخدام القوة ضدّها.
يمكن ان نحدد أوجه القوة بما يلي: القو الصلبة أيّ القوة العسكرية التقليدية، وبرزت منذ قديم الزمن، وشكلت عاملاً أساسياً في حسم الصراع الدولي. لا سيما في الحربين العالميتين الأولى والثانية اللتين شهدتا استخداماً مفرطاً للقوة العسكرية الصلبة، وقد كان سباق التسلح في أولويات الدول، لحسم الصراع وإخضاع الخصوم وفرض الإملاءات على الشعوب.
في السنوات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي ،برزت القوة الاقتصادية ،والتي أصبحت أساسا للعلاقات بين الدول .
وفي كتابه “ما بعد القتال” يشير الدكتور حسام مطر إلى التحوّل الجوهري الذي طرأ على مفهوم القوة في المرحلة التي أعقبت الحرب الباردة، بدأ معها المفكرون والكتّاب يفهمون القوة من ناحية ما تمثله من قدرة السيطرة على النتائج.
أما في فترة التسعينيات، ومع نهاية الحرب الباردة، أصبحت الولايات المتحدة الأميركية مركزاً أحادي القطب، فبدأ المنظرون الأميركيون خاصة في طرح مفاهيم جديدة ومختلفة للقوة، تبلورت في ما بعد بما يسمى “القوة الناعمة”. وقد فرض هذا النوع من القوة نفسه وأضحى من أهمّ العناصر التي تعتمدها الدول في برامجها وتعتمد عليها في سياق عملها السياسي والدبلوماسي. وفي هذا السياق فإنّ الحرب التي شنّتها الولايات المتحدة الأميركية على العراق ورغم مظاهرها العسكرية وقوتها الصلبة المباشرة، إلا أنّ لم تخض فقط بهذا الشكل، بل ارتكزت أيضاً على القوة الناعمة.
ومن هنا يبرز السؤال حول ماهية القوة الناعمة والحرب الناعمة؟ وكيف نشأت هذه الظاهرة؟ وما هي ظروف تطوّرها؟ وكيف تمارس؟ وما هو مسرحها؟
يقول كولن باول: “الولايات المتحدة الأميركية احتاجت الى قوة صلبة لتكسب الحرب العالمية الثانية، ولكن ما الذي أعقب القوة الصلبة مباشرةً؟ هل سعت الولايات المتحدة الأميركية للسيطرة على أمة واحدة في أوروبا؟ ويجيب باول نفسه: كلا، فقد جاءت بالقوة الناعمة في خطة مارشال… ولقد فعلنا الشيء نفسه في اليابان”.
وفي تصريح لها امام مجلس العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الامريكي في 13 -10-2009, عرَّفت هيلاري كلينتون القوة الذكية بأنها “تسخير كل الأدوات التي تتوفر لدى الولايات المتحدة الأميركية سواء الإقتصادية والعسكرية والسياسية والقانونية والثقافية والإعلامية، والبحث عن الأداة الملائمة من بين هذه الأدوات بما يتناسب مع كل وضع دولي”.
وقد بلورت لجنة تخطيط السياسات في الخارجية الأميركية بالتنسيق مع الجهات الأخرى في الإدارة الأميركية سياسات جديدة تم وضعها قيد التطبيق منذ سنوات في إطار مشروعين اثنين:
الاول: مشروع القرن الواحد والعشرين المسمى: Sentury Statcraft st 21, وهو قرن صناعة الدول في القرن الحادي والعشرين والذي يهدف الى إحداث التغييرات في البنى السياسية لبعض الدول وخاصة المناوئة لأميركا من خلال توظيف التكنولوجيا الإتصالية والإعلامية عبر تشكيل قوى سياسية ومدنية وشبابية في ساحة الخصم تؤمن بالأفكار والقيم والسياسات الأميركية ويتم التواصل معها عبر الإنترنت ووسائل الإعلام، ويمكن ترميز هذا المشروع بما أطلق عليه إعلامياً بثورة الديمقراطيات الرقمية.

الثاني : المشروع المسمى: Diverting The Radicalization Track ويقوم على “إعادة توجيه مضمار التطرف” ويعني الإتصال بالبيئة السياسية للجماعات والنظم المتطرفة والمعادية وفتح حوارات معها عبر جهة ثالثة أو من خلال واجهات مدنية والسعي لتوجيه زخمها وإمتصاص عنفها .(كتاب مدخل الى الحرب الناعمة /مركز المعارف للدراسات)

يعتمد هذا الفهم للحرب الناعمة وبشكل اساسي على مقومات الثقافة والقيم السياسية الخارجية ويستخدم عناصر الجذب والاستقطاب والتأثير غير المباشر ويترتب على هذه العناصر، الاقتناع والاندماج الكامل بمقولات وقيم المعتدي.وفي مقابله له مع مجلة افاق المستقبل قال جوزيف ناي :” ان الحرب الناعمة تعتمد على ما يجري في ذهن وعقل المتلقي ، لان العمل على ما يجري في الذهن يؤدي الى الاقتناع والامتثال وبالتالي التقليد الاعمى للآخر من دون التركيز على مستوى التناسق بين القيم الذاتية والقيم الوافدة”.
بناءً على ما تقدم، فللحرب الناعمة اهداف عديدة ترتبط بشكل مباشر بما يريده المعتدي، فإن رغب في الترويج لقيمة ما او سلعة او سياسة معينة، كانت الادوات طيعة بيده بشرط ان يقدمها بشيء من الجاذبية والرمزية. ولعل ابرز تأثيرات هذه الحرب هي التي تطال الاسرة والمجتمع، باعتبار ان الخضوع لما يريده الآخر يتوقف على مدى التغيير القيمي والثقافي الذي يحصل في المجتمع. طبعا ليس بوسعنا هنا أن نحيط بكافة هذه التأثيرات لذلك نكتفي بالاشارة الى البعض منها:
أ‌- تغيير السلوكيات: تؤثر الحرب الناعمة على مستوى سلوك الفرد والمجتمع ويترتب على ذلك حالة من الانبهار والضياع والابتعاد عن الهوية الحقيقية للمجتمع. من هنا نرى ان الامريكي كان يشدد على ان ” خلق التفضيلات والصور الذهنية للذات عن المصادر الرمزية والفكرية يؤدي الى تغييرات سلوكية عند الآخرين” .اما آثار تغيير السلوك فهي عديدة من جملتها عدم الاقتناع بالمباديء والاسس والمعتقدات الموجودة، ورفض الهوية الذاتية بكل معانيها والاندماج مع ما يريده الآخر، ولعل ابرز ما يشار اليه كشاهد على ذلك، السلوكيات العامة في بعض اطياف المجتمع التي يقف الانسان حائراً امامها باعتبار عدم حكايتها عن القيم الذاتية.
ب‌- الانهزام النفسي والمعنوي :فقدان الثقة بالقدرات والامكانيات الذاتية. لذلك كان الامام الخامنئي يُشدّد خلال احاديثه عن الحرب الناعمة على الابعاد المعنوية والمعرفية…:”وما يسمى اليوم بالحرب الناعمة يتقدم العدو نحو الخنادق المعنوية ليدمرها؛ يتقدم نحو الايمان والمعرفة والعزيمة” .
ويتمكن العدو من هزيمة الآخر عبر الانبهار بما يمتلك من قيم ومخزون ثقافي وعبر الحط من قيمة ما يمتلك الآخر، وينتج عن ذلك عدم الانتاج وعدم العزيمة على التغيير والتمسك بالجذور. يقول الامام الخامنئي ” في الحرب الناعمة يكون الهدف هو الشيء الموجود في قلوبكم وفي اذهانكم وفي عقولكم اي ارادتكم…” .
ج- الترويج للباطل: يتوقف تغيير السلوك والانهزام النفسي في المجتمع، على مبدأ يعتمده العدو في حربه ألا وهو الترويج للباطل، فالترويج هذا عبارة عن تكتيك يساعد في الانحراف عن القيم الحقيقية والمعتقدات السليمة، وتؤدي الدعاية المحقة بالظاهر الى الاعتقاد بقيم فاسدة ، فكم سمعنا عن الترويج للديمقراطية وحقوق الانسان والمرأة وغيرها ، على السنة المعادين للشعوب الاسلامية لكن لم يكن الهدف من وراء ذلك سوى سلخ المسلم من قيمه وثقافته .
الحرب الناعمة الامريكية على العراق:
تعد برامج التبادل الثقافي واحدة من أدوات الحرب الناعمة الأمريكية، وهي من أهم البرامج التي نُفذت في العراق من أجل تغيير الأعراف العادات والتقاليد العراقية الاصيلة بطريقة ناعمة وهادئة وسلسة وبلا ضجيج.
حيث عملت أمريكا بكل جهدها لتغيير عقلية وثقافة الشباب العراقي عن طريق ثلاث برامج, وهي:
الأول: يستهدف طلبة المدارس الإعدادية.
الثاني: يستهدف طلبة الجامعات.
الثالث: يستهدف أساتذة الجامعات.
حيث تستكمل السفارة الأمريكية عملية غسيل الدماغ والتدمير بذريعة منظمات المجتمع المدني و تمكين الشباب والشابات والزمالة الدراسية التي تطلقها بين مدة وأخرى, وهي:
1- برنامج تبادل القادة الشباب العراقيين(آيلب)
2- برنامج زمالة رواد الديمقراطية LPF.
3- برنامج فولبرايت.
الاول: برنامج آيلب: هو برنامج يختص بطلبة الإعدادية المتميزين الذين يتمتعون بمؤهلات من الممكن استغلالها وكسبها وجعلهم أدوات تستخدمهم أمريكا لإثارة الفتن وزعزعة العقيدة ونشر ثقافة العلمنة والانفتاح والانحلال والإلحاد، فمنذ بدء الاحتلال الأمريكي للعراق كان الهدف الأكبر لشن الحرب منه ليس كسر شوكة العراق عسكرياً فقط، بل تدمير القيم والأخلاق والثوابت والأعراف ووو… الخ ويعمل” آيلب” على نسف مقتضيات الأمن المجتمعي واستهداف الإنسان العراقي وإفساد المنظومة الاجتماعية.
شروط اختيار الطلبة كما جاء في وثيقة أمريكية صادرة بتاريخ 21/ 2/ 2003م:
1- أن يكون من الراغبين بقيادة المجتمع في المستقبل.
2- أن يكون منفتحاً على جميع الثقافات.
3- أن يكون متحرراً من العادات والتقاليد.
4- الالتزام بتنفيذ المشروع المخطط لتنفيذه بعد انتهاء البرنامج.
الثاني: برنامج زمالة رواد الديمقراطية LPF:
هو برنامج خصصته وزارة الخارجية العراقية لطلبة البكالوريوس والخريجين وهو مشابه لنسخة “آيلب” مطورة حسب قدراتهم، ويتم تدريبهم على كيفية السيطرة على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وإدارة الصفحات الترويجية والبحث والتحري، فقُسموا وفق هذا البرنامج على مجاميع، منهم باحثون ومنهم مدونون في مواقع التواصل الاجتماعي ومنهم إعلاميون وناشطون يديرون الصفحات الجماهيرية وتُخصص لهم أموال كبيرة لتسهيل عملهم بهدف صناعة الرأي العام وتغيير نظرة المجتمع لأمريكا وشيطنة خصومها وهذا البرنامج من أهم مظاهر الحرب الناعمة التي أشار اليها جوزيف ناي بأنها( القوة الناعمة لأمريكا) .

الثالث: برنامج فولبرايت:
هو برنامج يتم العمل به بنفس الصيغة لكن بشكل مطوّر ومكثّف أكثر من البرنامجين السابقين ويستهدف بشكل خاص أساتذة الجامعات العراقية وتُخصص لهم ورش عمل خاصة ويتم اختيارهم وفق الشروط التحررية والابتعاد عن العادات والتقاليد لصناعة جيل كامل من أساتذة متأمركين معوّقين فكرياً ومتحررين دينياً وعقائدياً مروجين ومدافعين عن السياسات الأمريكية في العراق مشيطنين لخصومها.
كل تلك البرامج الثقافية التي طرحتها امريكا خلال السنوات السابقة, ماذا قدمت لشبابنا العراقي, هل طورت مهاراتهم, ام خبراتهم او ساهمت في تطوير امكانياتهم, ام فقط عملت على تغيير الراي العام وصناعته وتوجيهيه وبالتالي استهدفت القيم السائدة في هذا البلد؟
آثار الحرب الناعمة الامريكية في العراق
لم تتمكن الولايات المتحدة من تحقيق اهدافها كاملة في العراق لاسباب عدة منها وعي المرجعية الدينية في النجف الاشرف،وتصدي رجال المقاومة الاسلامية للقوات الامريكية ومشاريعها الهدامة .وبعد خروج قواتها من العراق في 2011 قررت تكثيف برامجها للحرب الناعمة وانتاج برامج خاصة للعراق لتحقيق اهداف نورد أهمها فيما يلي:
1- انتاج عملية سياسية فاشلة في البلد ضمن المباديء الطائفية والعرقية.
2- تسويق شخصيات سياسية ( مأزومة ) للتوغب في مفاصل الدولة العراقية ، فقد استشرى الفساد الاداري والمالي فأماتوا التنمية في البلد وعطلوا المشاريع وزرعوا اليأس في أي حالة تغيير.
3- زرع روح الاحباط والانكسار في نفوس العراقيين من خلال التركيز على الوجه المظلم من الحياة، وذلك عبر ساعات طويلة من البث حتى بات المواطن العراقي يعتقد أن كل مفردات وطنه فاقدة لمعانيها وطاقتها، فلم يعد يرى في نهر دجلة سوى حفرة تبعث على القرف وفي مدنه سوى خرائب يسكنها الموت والفقر.
4- استطاعوا توظيف التاريخ اللعب على نقاط الخلاف الديني والطائفي والعرقي وعرضها بشكل فجّ ومثير واشتروا ذمم رجال دين وكتاب محترفين لهذه المهمة، فخلقت أجواءا من التفكك والانقسام.
5- عملوا على تفتيت اللحمة الاجتماعية عبر التركيز على الطائفية كحاكم لكل القيم والعلاقات..
6- قسموا مناطق العراق ومدنه الى كونتات طائفية وعرقية فبدأت عملية نزوح هائلة في اعوام الحرب الاهلية، كلٌّ ينزح الى حيث أحياء طائفته .
7- وقفوا أمام أي مشروع اقتصادي او وطني، ودمروا البنى التحتية للمصانع والمؤسسات حتى يبقى المواطن العراقي يعيش على البضاعة الاجنية ودون صناعة وطنية ويشكك في قدرته على أن يصنع ويبدع.

المصادر
– الحرب الناعمة، محمد حمدان
– الحرب الناعمة، قراءة في اساليب التهديد وادوات المواجهة.
– مجلة آفاق المستقبل،2010، مقابلة مع جوزيف ناي.
– القوة الناعمة ودورها في توجهات السياسة الخارجية الايرانية، احمد الخفاجي
– موقع الوقت

شاهد أيضاً

التعليم تؤكد قبول أكثر من ثلاثة آلاف طالب دولي في الجامعات العراقية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *