مقدمة في المنظور الحضاري للثورة الحسينية..!

محمد عبد الجبار الشبوط ||

لم يكن النبي محمد (ص) حين بعث بالاسلام قبل ١٤ قرنا مبتدعا وانما كان متمما وخاتما لسلسلة طويلة من المصلحين العظام الذين يحملون لقب نبي او رسول. وانها لشجاعة فائقة من الرسول ان يعلن انتهاء سلسلة الانبياء الطويلة التي استمرت عدة الاف من السنين به، كما يروي البخاري عن ابي هريرة ان النبي قال:”لا نَبِيَّ بَعْدِي”، او قوله لعلي بن ابي طالب:”ألَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِن مُوسَى إلَّا أنَّه ليسَ نَبِيٌّ بَعْدِي” (البخاري).
يقول الرسول في الحديث الصحيح: “إنَّما بُعثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ”. وفي الحديث الصحيح الذي يذكره البخاري عن جابر بن عبد الله ان الرسول قال:”مَثَلِي ومَثَلُ الأنْبِياءِ كَرَجُلٍ بَنَى دارًا، فأكْمَلَها وأَحْسَنَها إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَها ويَتَعَجَّبُونَ ويقولونَ: لَوْلا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ”.
يمثل الانبياء و الحضارة خطين متوازيين يكمل احدهما الاخر؛ كلاهما يعبران عن التطور المستمر في حياة الانسان سعيا وراء الكمال. ولا نعرف حضارة قامت بمعزل عن الدين منذ فجر الحضارة الى اليوم. وتجربة الماركسية بطبعاتها المختلفة اقامة حضارة بمعزل عن الدين فشلت وعادت المجتمعات التي حكمتها الاحزاب الشيوعية القهقرى بعد بعد تجربة مضادة للدين بعد حوالي ٧٠ سنة. فيما قامت الحضارة الرأسمالية بمنطلقات بروتستانتية، كما درسها ماكس فيبر.
مثّل الاسلام، المتمم لخط الانبياء، مشروعا حضاريا قائما على دعامتين: التوحيد والاستخلاف. توحيد الله وحده ورفض الشرك لضمان حرية الانسان من جهة؛ واستخلاف الانسان في الارض المعبر عن صلاحية الانسانية حكم نفسها بنفسها، من جهة ثانية. ونحن نعلم انه بدون الحرية والديمقراطية لا تقوم للحضارة الإنسانية قائمة. ونحن نعلم ان اشكال الحضارة القائمة على الالحاد والاستبداد ما تلبث ان تسقط وتنهار. ولا تنفع المكابرة والعناد في هذا الخصوص. فذلك هو قانون التاريخ وسنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ذلك الدين القيّم. وحتى الحضارة المؤمنة لا يكتب لها البقاء والاستمرار إنْ هي حادت عن هذا الطريق وانحرفت. ولا يمكن القياس على الحضارة الصينية الراهنة لانها مازالت في مرحلة الصيرورة ولم تكتمل دائرتها ليتم الحكم عليها بطريقة علمية وموضوعية. والحضارة اليابانية، رغم خصوصيتها الشديدة، الا انها ليست قائمة على اساس الالحاد، انما على اساس منظومة قيمية متصالحة مع الدين.
بعد ان ارسى القران والرسول اسس المشروع الحضاري الاسلامي الممثلة في منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري للمجتمع والدولة، اهتم القران والرسول (ص) بالفات نظر المسلمين الى مستقبلهم بعد رسول الله والتحذير من امكانية الانزلاق والارتداد والخروج عن جادة الصواب. ومن بين الايات والاحاديث التي تناولت هذا الامر نقرأ قوله تعالى:”وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين”. ومثلها قول النبي كما يرويه البخاري:”لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ.” الى قول الرسول في اللحظات الاخيرة قبل وفاته كما يرويه البخاري في صحيحه عن ابن عباس: “لَمَّا حُضِرَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وفي البَيْتِ رِجَالٌ، فيهم عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، قَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هَلُمَّ أكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ فَقَالَ عُمَرُ: إنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ غَلَبَ عليه الوَجَعُ، وعِنْدَكُمُ القُرْآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ. فَاخْتَلَفَ أهْلُ البَيْتِ فَاخْتَصَمُوا، منهمْ مَن يقولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، ومِنْهُمْ مَن يقولُ ما قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أكْثَرُوا اللَّغْوَ والِاخْتِلَافَ عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قُومُوا قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَكانَ ابنُ عَبَّاسٍ، يقولُ: إنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ ما حَالَ بيْنَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبيْنَ أنْ يَكْتُبَ لهمْ ذلكَ الكِتَابَ، مِنَ اخْتِلَافِهِمْ ولَغَطِهِمْ.” وكانت تلك هي البذرة الخطرة التي سوف يتآكل المشروع الحضاري الاسلامي بسببها تدريجيا. والتآكل الحضاري يعني عدم قدرة المشروع الحضاري على الاستمرار والانتاج والابداع والتقدم.
التآكل الحضاري هو عملية تدهور وفقدان القيم، الممارسات، والمعايير الثقافية والتقليدية داخل مجتمع معين. يحدث هذا نتيجة عوامل متعددة مثل:
1. الفساد السياسي والإداري: الإدارات الفاسدة والحكومات غير الكفؤة كانت عاملاً رئيسياً في تدهور العديد من الحضارات، مثل سقوط الحضارة الرومانية.
2. التوسع الزائد والإفراط في الإنفاق: الإمبراطوريات التي تمددت أكثر من قدرتها على الإدارة، مثل الإمبراطورية الرومانية، تدهورت بسبب الأعباء الاقتصادية والعسكرية الكبيرة.
3. التدهور الاقتصادي: الانهيار الاقتصادي والنقص في الموارد كان له تأثير مدمر على الحضارات مثل الحضارة السومرية.
4. الصراعات الداخلية: النزاعات الداخلية وحروب السلطة كانت عاملاً رئيسياً في سقوط العديد من الحضارات، مثل سقوط الحضارة العربية في الأندلس بسبب الفتنة بين الممالك الطائفية.
5. الغزو الخارجي: الغزوات الخارجية والاعتداءات المستمرة كانت سببًا في سقوط الحضارات، مثل سقوط الحضارة السومرية.
6. التغيرات البيئية والكوارث الطبيعية: الكوارث الطبيعية والتغيرات المناخية أدت إلى تدهور الحضارات.
7. ضعف النظام التعليمي والثقافي: تجاهل التعليم والقيم الثقافية والتراجع الفكري يمكن أن يؤدي إلى فقدان الهوية الحضارية.
8. الفقر واللامساواة والظلم: زيادة الفجوة بين الفقراء والأغنياء وعدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية شكلت تحديًا كبيرًا للحضارات.
9. الانحلال الأخلاقي والاجتماعي: الانهيار الأخلاقي والفساد الاجتماعي يمكن أن يكون أحد عوامل التآكل الحضاري، كما لوحظ في الحضارة الرومانية في عصرها المتأخر.
ويمكن جمع كل هذه الاسباب وغيرها في عنوان واحد عريض هو الاختلالات في منظومة القيم الحافة بالمركب الحضاري للدولة والمجتمع.
وكان الرسول في الحديث الذي يذكره صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: “لا يَزالُ الإسْلامُ عَزِيزًا(وفي رواية اخرى: منيعا) إلى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً، ثُمَّ قالَ كَلِمَةً لَمْ أفْهَمْها، فَقُلتُ لأَبِي: ما قالَ؟ فقالَ: كُلُّهُمْ مِن قُرَيْشٍ.” وفي حديث اخر صحيح السند يرويه حذيفة بن اليمان، يقول الرسول (ص):” أنتم في نبوةٍ ورحمةٍ وستكونُ خلافةً ورحمةً وتكونُ كذا وكذا وتكونُ ملكًا عضوضًا”.
ونفهم من هذه النصوص الحقائق التالية:
اولا، ان احتمال انقلاب المسلمين على اعقابهم بعد وفاة الرسول امر وارد ومحتمل. وهذا ما يؤكده عالم الاجتماع الفرنسي الراحل الين تورين تحت عنوان ارتداد المجتمع الى ذاته السابقة على مرحلة التغيير الشكلي الفوقي الذي حصل فيه.
ثانيا، ان بقاء عزة الاسلام ومنعته مشروطا بان يتولى الحكم من بعد الرسول ١٢ خليفة/ اماما يملكون الاهلية للحفاظ على عزة الاسلام. والملاحظ ان النبي يتحدث هنا عن الاسلام وليس عن الدولة الاسلامية. وبالتالي فان هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر هو ائمة الدين. ولا تنفع محاولات البعض كتابة قائمة باسماء خلفاء للرسول تنطبق عليهم الشروط. وهؤلاء ليسوا الخلفاء الزمنيين انما ائمة الدين، وهم الامام علي وابناه الحسن والحسين وابناء واحفاد الحسين التسعة وصولا الى الامام المهدي. وان الحفاظ على عزة الاسلام ومنعته منوطة بهؤلاء. وهؤلاء الخلفاء الاثنا عشر الذين تم عزلهم عن المشروع الحضاري الاسلامي كانوا هم الضمانة في ان لا يتسرب الخلل الى منظومة القيم العليا.
ثالثا، ان الانقلاب الحقيقي بدأ منذ منع النبي من كتابة وصيته والتي هي على الاعم الاغلب التذكير بضرورة التمسك بالكتاب والعترة كما وردت في مناسبات اخرى، ابتداء من ولاية الامام علي التي نص عليها الرسول في غدير خم امتثالا لامر مشدد من الله نص عليه القران. ثم وصل الانقلاب ذروته في تحويل معاوية خلافة رسول الله الى مؤسسة حكم عائلية يتوارثها الابن من ابيه. وهو امر يشكل انقلابا كاملا على منظومة القيم القرانية العليا ابتداء من اية الاستخلاف الى اية الشورى وغيرهما.
واذا كان الامام الحسن اجّل الثورة ضد هذا الانقلاب، لاسباب عملية فرضتها الظروف انذاك، فان الظروف نضجت من اجل الثورة في عهد الامام الحسين حيث لم يعد السكوت ممكنا بعد تولي يزيد بن معاوية منصب الخلافة التي تحولت الى “ملك عضوض” كما حذر منها الرسول لتؤكد الثورة ان عزة الاسلام ومنعته رهينة بان يتولى الخلفاء الاثنا عشر مقاليد الامامة في المجتمع الاسلامي، كما نص على ذلك الرسول (ص). ان البعد الحضاري للثورة الحسينية يتمثل في كونها فعلا قام به الامام الشرعي لاعادة الامة الاسلامية الى مسارها الحضاري الصحيح بعد الانقلاب التي حذر منه القران. ذلك ان هذا الانقلاب شكل خللا كبيرا في منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري للمجتمع الاسلامي في اخطر حلقات المجتمع وهي مؤسسة الخلافة والحكم. لقد حصل اختراق كبير وخطير لمنظومة القيم الخاصة بالمشروع الحضاري الاسلامي في مفاصل خطيرة منه، كما في الجانب الثقافي (التلاعب بالاحاديث النبوية)
والسياسي (اقصاء الامامة الحقة عن قيادة المشروع وتحول الخلافة الى ملكية وراثية استبداديك) والاقتصادي (التفاوت الطبقي الذي تفاقم في عهد عثمان).
ردا على كل هذا اعلن الامام الحسين: “الا ترون إلى الحق لا يعمل به، والى الباطل لا يتناهى عنه؟” وكتب في وصيته الى اخيه محمد بن الحنفية كما يرويها صاحب البحار:”وأني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن ابي طالب”.

شاهد أيضاً

وزارة الداخلية : إصدار أحكام الإعدام بحق (82) تاجر مخدرات في العراق

كشفت وزارة الداخلية تفاصيل عملية الردع الرابعة الخاصة بمكافحة المخدرات والتي أطاحت بـ116 متاجرا دوليا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *